الأربعاء 06 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

هيلانة الشيخ تكتب: أغلبنا مُصابٌ بوهمِ الكتابة

هيلانة الشيخ
هيلانة الشيخ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أغلبنا مُصابٌ بوهمِ الكتابة؛ آليّة التعبير! هذه الآليّة الغريزيّة بين عبثيّة العدميّة والوجودية مرادفًا لمفهوم النطق، النطق هو فعل الحَكي عن اللّا وعي الحسّي بالإشارة، الحكي للتعبير بدأ بالرّسم أو النقش، ومنه إلى النّحت، أو الرقص، أو البناء والهدم، حتى تجسّدت آليّةٌ جمعت كل هذه الآليّات هي آليّة الكتابة، إنها عبثية البقاء، عبثيّة الفكرة.
تجسيد الفكرة بدءًا من كتابتها على مساحةٍ مقروءة، تلوينها، تُخرج من وحيٍ خياليٍّ يقارع الواقع، نزعةٌ فطرية في خلقِ عالمٍ أفلاطونيٍّ؛ ربما تُخرج مُشوّهة، ربما مجمَّلة وربما مبتورة وربما هشّة، فالأوجاع فكرة، الفرح الحزن الموت العشق الجوع الجريمة الجمال … مجرد أفكار جميعنا يملك آليّته الخاصة في التعبير عنها؛ فالرسّام يفترش ألوانه على قماشةٍ ليحكي عبرها عن قصة أو مشهد أو حالة سرياليةِ اللّغة، النحّات يستخدم إزميلًا يُشكّل من قطعةٍ خشبية عينين وذراعين أو شكلًا هندسيًا رمزيًا، كذلك البنّاء والبستانيّ والحدّاد… كلٌ له أدواته بينما الكاتب يستخدم أداة وحيدةً هي اللغةً! وهنا يكمن سر الكتابة، نحن نكتب ولا نملك إلّا أن نكتب، جميعنا بلا إستثناء نزاولها ككمارسة يومية؛ في الدوائر الحكومية، في سجلات الوفيّات وشهادات الميلاد، في قاعات المحكمة، على اللّافتات، على الجدران، على الأغلفة في بطاقات التموين ورُخص القيادة، على هواتفنا الذكيّة، لكن كيف ومتى تتحول الكتابة من وهمٍ مفتعل إلى موهبة حقيقية؟! 
امتهان الكتابة للكتابة فقط لن يمنحك لقب كاتب، الكتابة فن من فنون القتال جبهتها الإبداع وأسلحتها أفكارك، الكتابة قُبلة دامية تنتهي بنشوة الانتصار، الكتابة منازعَة بين موتٍ وموت، تسونامي جارف يُعرّي العظم من اللحم، الكتابة ليست نصًا عابرًا يشبه بيتًا من الرمل تسحقه أول موجة فيستوي بالأرض كأنه لم يكن، عليك أن تكتب من عُمقٍ بعيد كأن تشيّد قلعةً يخلّدها المدى اللّا محدود، تناطح بها الزمان والمكان، الكتابة تجرّد ونوبات من الجنون، صرعات من العشق السرمدي، الكتابة رقصة موتٍ تقطف رأس القارئ كما فعلت سالومي برأس يوحنا المعمدان، هدم المعابد كما فعل شمشون، إنها فعل الجبابرة اللذين لا يفتعلون الكتابة كممارسة فرضتها عليهم الحاجة لأجل طبق من الأرز باللحم، أو لأجل صورة تذكارية في أزقّة المعارض، أو شكلًا إجتماعيًا ولا هي بالوجاهة والمناصب.
الكتابة فقط لأجل الكتابة؛ عندما تُصاب بها فتتحول إلى حالة من الإدمان اللذيذ، تندفق كالسيل دون تعرجات، حالة خاطفة ترتطم بالحدث فينفتح داخلك بركانًا من الوجع صوته مسموع، مسموع على امتداد أوجعاهم، الكتابة نزفٌ يشبه العزف، يشق صدر القارئ لينتزع منه شهقة الدهشة: تبًا له كيف فعلها؟ 
حينها تقف بكل عنجهية وتقول: نعم أنا فعلتها، أنا ماركيزيٌّ ساديٌّ رقيقٌ مهذب، أنا أندريه المختلف لا أشبهكم ولا تشبهونني، أنا مخائليّ شولوخوفيّ إشتراكي، أنا فكتور هوغو وشكسبير وليو تولستوي وولف وكافكا، أنا بتهوفن الذي حوّل القرع على بابٍ إلى سيمفونيّة القدر، أنا أنا جميعكم ولا أشبه أحدًا منكم.
هكذا فعلها بوكوفسكي: "عندما يكون الوقت مناسبًا، إذا كنت مختارًا ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها وستستمر بالحدوث مرة بعد أخرى حتى تموت أو تموت هي داخلك."
فالكتابة إيغالٌ في عمق الفكرة واستخلاص جذورها، دون قتلها، تشريحها دون تحنيطها، الانحسار عنها لا الانحصار فيها، تجريدها دون التجرّد منها، التبحّر فيها دون الغرق فيها، فنحن نكتب لإيقاظ الوعي وقتل الجمود، لقتل الفكرة الميّتة، لتحرير العالم من أسره، لحلّ قيوده واخراجه عن المنظومة الفلكية، لتعريته دون انتهاكه، لشقِّ صدره دون خدشه، لنتنفّس في مكعبٍ ضيّقٍ مملوءٍ بالماء دون أن نبتلع محيطه! 
يولد الإنسان بفطرته موهوبًا، يتعلّم ويتأقلم، يتخيّل، تحرّضه الفطرة على البقاء، لكن هيكلةَ البقاء تختلف باختلاف فكرته! بعضنا يكتفي بثلاثة وجبات وجرعة ماء وحجرة وفراش، بعضنا يطمح إلى أبعد من ذلك؛ قصرًا أو مملكة لا سقف لها، وقد ينتهي خياله إلى قمة عرشٍ لا تتسع لاثنين. هكذا يتحول الكاتب من كاتب محترف إلى مبدعٍ منحرف، لا تقتصر مساحات خياله على قراءة الكتب، واجترار موتاها، فيتصيّد الفكرة من خيطها ليغزل بها عالمه المبتكر، يفتح بها الأبواب المغلقة على مصراعيها، يقتنصها من دمائها الطازجة لحظة نزفها، يكتبها لحظة غليانها قبل أن تبرد أو تجِف. 
فتصبح القراءة هنا جريمةً مكتملة الأركان، يتشارك بها القارئ والكاتب معًا كحالةٍ من العشق والالتحام أدواتها؛ اللغة والفكرة والمفارقة التي تلخصها الدهشة.
فكيف نصقلها؟ نقرأ الجيد والرديء، نتذوق الحلو والمر، كي يظهر التضاد بين الأسود والأبيض لابد من الغرق في العتمة، اقرأ وإن كلّفّك ذلك تمزيق الكتاب أو حرقه، جنّد أفكارك لخوض معركةٍ مع أفكار الكاتب، وعندما يحالفك الفوز ستغتم فكرةً، لكن احذر أن تغتصبها فتثمر لقيطًا مُشوّهًا، حرّرها ثم عاود الكرّة معركةً تلوَ معركة.
العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة ندّية؛ من يكتب لشريحةٍ من الجهلة سيجني جهلًا، ومن يتفانى في الكتابة إلى قارئ عنيف المزاج حتمًا هو كذلك، ومن يكتب محاصرًا بالفكرة لن يصل أبعد من قامة قلمه، العلاقة النديّة تجعل الكتابة حالة من حالات الإيمان العقائدي بين عاشقين، منحٌ يقابله أخذ، بذرٌ يقابله حصاد، جرّاحٌ يقابله ورمٌ متفحِش، جلادٌ تقابله خطيئة، صلاةً تقابلها مغفرة.
لكن من هو؟
اقرأ الأقدم فالأحدث؛ المعلقات السبع شرح الزَّوْزَني، كليلة ودِمنة لابن المقفع، ديوان أبي تمام ثم الخوارزمي، ديوان الجاحظ ثم البحتري، الحاوي لأبي بكر الرازي، علم الكلام العقد الفريد لابن عبد ربّه، ولابد أن تقرأ للمتنبي ثم اقرأ على مهلٍ كتاب الأغاني لأبي فرجٍ الأصبهاني وإلّا فأنت لم تقرأ بعد، لتستريح في ديوان أبو فراس الحمذاني ثم فلسفة كتاب المناظر لابن الهيثم، ومن البيروني إلى أبي علاء المعرّي، حتى تعتكف قليلًا على كُتب ابن حزم، فإن أردتِ الاستفاضة فعليك بكتاب البيان والتبيين للجاحظ، لتجعل مسك الخِتام كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه.
هكذا تؤسس للغةٍ ضليعة لا تهزمها ركاكة التحديث، فالكتب القديمة تشبه القلاع العتيقة ونحن اليوم وإن شيّدنا معرفتنا عبرنا حقبةً معارفها تشبه بيوت الشعر والطين، كتاباتٍ تشبه الفقاعات الهائمة تختفي مع آخر صفحة نطويها، لكن أعمدتنا الراسخة في الأدب تأتي في المرحلة الثانية من القراءة، مرحلة التمهيد بعد مرحلة التأسيس، فعليك بعباقرة الأدب العرب أولًا كعلي الحصري القيرواني، ثم أبو الأسود الدؤلي، طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس لتخرج من محيطهم إلى محيط أكبر وأكثر اتساعًا؛ فولتير ديستوفسكي وليو تولستوي ولا تتقوقع داخل جربة الجوائز، فليس كل نوبليٍّ يستحق العناء، ولا كل بوكريٍّ جدير بهدرِ وقتك على كتابه، نقّب بنفسك في صفحاتهم ولا تخدعك معمعات القطيع، ربما تجد في صفحة يتابعها عشرات ما لن تجده في صفحة يتابعها الألوف.
لكل كاتبٍ منّا سرٌّ لا يفصح عنه ولا يبوح به، يحتفظ به، يستأثر به لذاته، فلا تعطّل خيالك كله أثناء الكتابة عن واقع قبيح، ولا تشغّله كله، امسك قلمك من المنتصف؛ حتى يخيّل للقارئ أنك أنت البطل في كل رواية تسردها، تماهى مع أبطالك والتحم بهم، انخرط بينهم توحّد بينهم هويّتك هي هويتهم، اقترب ثم اقترب، انفخ فيهم من وحي روحك، شكّلهم كيفما تشاء دون أن تطمس ملامحهم، أطلق عنان صرخاتهم دون أن تعملق أحدهم وتقزّم الآخر، كُن منصفًا في رسم أوجاعهم، محايدًا في رسم جرائمهم دون تبريرها، معتدلًا في تعذيبهم، دونما تجميلٍ دونما تزييفٍ اترك لأصواتهم مساحةً كافية كي تصل إلى كل قارئ.
ولا زلت أحبو على وهمٍ جميعنا مصابون به، إنه وهم الكتابة فاحذروه، ومن توهّم يومًا أنه تعافى منه فلا بدّ أن يتنحى عن الكتابة.

 

على الهامش ؛
*كتاب "جمهورية النبي عودة وجودية" للمفكر العراقي عبدالرزاق جبران: "أن تحملك صلاةٌ واحدة خارج جسدك خيرٌ من حمل جسدك للصلاةِ ألف عام"
*كتاب "لصوص الله" للمفكر العراقي عبد الرزاق جبران: يتوغل في مفهوم الحريّة باسلوب مغاير ولغة قوية جميلة.
*كتاب "ونس الكتب" الناقد المصري محمود عبد الشكور.
*كتاب "الغباء السياسي: كيف يصل الغبي إلى كرسي الحكم؟"، للكاتب الصحفي محمد توفيق.
*المجموعة القصصية "الطلبية C345" للقّاصة الفلسطينية شيخة حسين.
*رواية "الدم والحليب" للأديب المصري محمد الجيزاوي.
*رواية "الحفيدة الأمريكية" للروائية العراقية إنعام كجه جي.
*ديوان "متحف الأشياء والكائنات" للشاعرة اللبنانية سمر دياب.
ديوان "كيف حالك جدًا" للشاعر المصري سيّد العيسى.

 

المقال منشور ضمن كتاب “موهوب أم موهوم؟.. ماذا أفعل لأكون كاتبًا؟ ”، الصادر عن ليان للنشر، في الدورة 53 من معرض القاهرة الدولي للكتاب.