صدر حديثًا عن المركز القومي للترجمة برئاسة الدكتورة كرمة سامي الطبعة العربية من كتاب "ما بعد التاريخ: الخيال التاريخي في أوربا القرن التاسع عشر" لهايدن وايت و من ترجمة شريف يونس.
في عرض شامل للكتاب يقدمه الدكتور شريف يونس مترجم الكتاب كتب: "هذا الكتاب شكل ثورة في رؤيتنا للدراسات التاريخية، بأن قدّم رؤية عن الكتابة التاريخية تنفي عنها إمكانية تقديم الماضي بشكل موضوعي، وتُدرج الكتابات التاريخية في باب الأدب لا في باب العلم. بهذه الرؤية تحدى الكتاب وما زال مهنة التاريخ. يرى وايت أن المؤرخ يصنع من الماضي سرديات ذات معنى. ولأنها سرديات فإن بنيتها لغوية وبلاغية.
تنصب هذه الرؤية على الكتابة الحديثة للتاريخ، فهي لا تتناول كتابة التاريخ في العصور الوسطى بطريقة الحوليات، لكن بالطريقة التي نعرفها الآن، وهي كتابة بحث تاريخي عن موضوع معين، ليكن مثلا انهيار الإمبراطورية الرومانية أو تطور الزراعة في العصور الوسطى أو نشأة فكرة التقدم في العصر الحديث.
يرى وايت أن المؤرخ حين يتعامل مع المصادر يختار موضوعا له بداية ونهاية، ويختار الوقائع التي يعتبرها دالة، ويضع هذا كله في صورة سرد متسلسل، وهذا كله في إطار تصور مسبق للحقل التاريخي، تصور غير واعي يسميه "شعرية التاريخ". فالمؤرخ مدفوع في هذا الوضع، وفقا لوايت، للاختيار بين أنماط محدودة للسرد تفرضها طبيعة عملية السرد نفسها، هذه الاختيارات جمالية، تنقسم إلى أنماط الدراما البسيطة الكلاسيكية: الرومانس والتراجيديا والكوميديا والسخرية.
ليس الجديد في طرح وايت هو القول بأن الكتابة التاريخية فن، بل في تحديده لبنية هذه الكتابة وتصنيف الكتابات التاريخية وفقا لأنماط أربعة، سواء على مستوى نوعية الحجج التي يستعملها المؤرخ، أو نوع الدراما، أو نوع المجاز الشعري، أو نوع الأيديولوجيا. وهو يقسم الأيديولوجيات إلى أربعة أنواع، يتناسب كل نوع منها مع نوع أو نوعين من جماليات الكتابة التاريخية المذكورة من قبل. هذه الأيديولوجيات هي: الفوضوية (وقد تكون متفائلة يوتوبية أو تشاؤمية ديستوبية) والجذرية والمحافِظة والليبرالية.
يرى وايت أن كل نوع منها له نفس الكفاءة في التعامل مع مادة التاريخ الأصلية، ولا نستطيع أن نعتبر أي نوع منها أكثر "حقيقية" من غيره، لكننا يمكن أن نفضل نوع أو أكثر منها بناء شكله الجمالي (نمط المجاز أو الحبكة الدرامية)، أو مضمونه الأيديولوجي.
لا يدعو المؤلف من خلال رؤيته هذه إلى إلغاء كتابة التاريخ باعتبارها غير موضوعية، بل يدعو بالعكس إلى توسيع مداها. فهو يعيب على الكتابة التاريخية الأكاديمية أنها استبعدت نوعين على الأقل من جماليات الكتابة التاريخية، هما الرومانس والتراجيديا، وأنها أصبحت بذلك تتخذ مظهر الموضوعية المحايد واللا مبالي، الأمر الذي يفصلها عن المجال الثقافي العام ويقتل إمكانياتها الأيديولوجية أو الأخلاقية.
لكن ما بعد التاريخ ليس مجرد كتاب نظري، فمعظم صفحاته مخصصة لتطبيق هذه النظرية على أربعة من كبار المؤرخين في القرن التاسع عشر، هم ميشليه وتوكفيل الفرنسيين ورانكه الألماني وبوركهارت السويسري. وهو يعتبر أيضا، على خلاف المؤرخين الكلاسيكيين أن فلسفة التاريخ نوع من الكتابة التاريخية، فيدرس أيضا أعمال فلاسفة التاريخ هيجل وماركس ونيتشه وكروتشه.
بذلك يقدم وايت تفسيرا لتعدد تفسيرات التاريخ عند المؤرخين المختلفين. فبدلا من نسبة ذلك لتحيزات المؤرخين وتفضيلاتهم، ينسب هذه التفضيلات نفسها لطبيعة بنية التأريخ الحديث بوصفه سردا له أنماط معينة تقيد عمل المؤرخ بشكل غير واعٍ. وهو يفسر هذا الوضع نفسه بأن التاريخ هو معرفة لم تصل إلى وضع العلم science، مثله في ذلك مثل كل معرفة أخرى لم تصبح عِلما بالمعنى الحديث للعلم.
ومع ذلك، تظل مشكلة هذه الأطروحة، على قوتها، أنها تفصل التاريخ المكتوب عن الماضي الذي يحكيه هذا التاريخ. مجمل الفكرة أننا نصنع ونتلقى أو نقرأ الكتابة التاريخية وفقا لحساسياتنا الجمالية والأخلاقية (الأيديولوجية)، لا نتلقاها من المصادر. وبالتالي المظهر الواقعي الموضوعي للكتابة التاريخية مجرد قناع، لأنه لا توجد مرجعية واقعية موضوعية للتاريخ المكتوب. هذا كله يطرح التساؤل عن: لماذا نهتم بالتاريخ، وما فائدة معرفة الماضي إذا كانت حساسيات المؤرخ الحاضرة هي التي تصوغه. سؤال يطرح نفسه على قارئ هذا الكتاب
ثقافة
القومي للترجمة يصدر الطبعة العربية لـ"الخيال التاريخي في أوربا القرن التاسع عشر"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق