مستقبل غامض ينتظره الشعب الأفغانى عقب استيلاء حركة طالبان على مقاليد الأمور هناك، إذ أعقب ذلك العديد من الاضطرابات والقلاقل والأزمات الإنسانية والاقتصادية، ولاسيما بعد فشل الحركة فى التعامل والتعاطى مع العديد من الملفات، ولعل أبرزها عدم قدرتها على كبح جماح تنظيم داعش الإرهابى الذى مازال يصول ويجول فى طول البلاد وعرضها.
سيطرت حركة «طالبان» على البلاد فى أيام قليلة خلال منتصف أغسطس ٢٠٢١ لم يكن سوى اختبار سهل فالصعود إلى القمة تحد يسير مقارنة بالحفاظ عليها والنجاح فى تسيير أمور البلاد بنجاح، وهذا ما لم يحدث حتى الآن، ولعل ذلك يرجع إلى عدة أسباب أهمها أن الانتصار العسكرى أتى سريعًا جدًّا للحركة التى لم تكن مستعدة بخطط إدارة البلاد من دون مساعدة خارجية، فعندما كانت حركة متمردة، فرضت ضرائب على سكان المناطق التى تسيطر عليها، وتركت الخدمات العامة فى أيدى الحكومة ومنظمات غير حكومية، لكن الوضع الراهن مختلف تمامًا فهى الآن الحكومة والدولة وأصبحت مسئولة عن حماية وإعالة نحو ٤٠ مليون مواطن معظمهم تحت خط الفقر.
يمثل عجز حركة طالبان فى تحويل المقاتلين المتمردين إلى رجال دولة أهم التحديات إذ يفتقر معظمهم إلى الثقافة والتعليم مما يجعل تعاون المؤسسات الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية ودول القارة الأوروبية معهم أمرًا غاية فى الصعوبة، مما يقف حجر عثرة أمام المساعدات التى كانت تنعش الدولة الأفغانية، إذ تؤكد البيانات الرسمية للأمم المتحدة أن الميزان التجارى الأفغانى يعانى عجزًا خلال العام الماضى فقط بلغ نحو ٤.٦٦ مليار دولار، وأنه يمثل ٣٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، ويتم تمويله بالكامل من تدفقات المنح الوافدة، التى باتت غير مضمونة وفق المعطيات الحالية فالكثير من الدول ترهن مساعدتها بسلوك حركة طالبان فى الحكم، مع الأخذ فى الاعتبار أن الدول المانحة كانت قد رصدت حزمة من المساعدات بلغت ٢٠ مليار دولار فى الفترة بين ٢٠٢١ و٢٠٢٥ أصبح مصيرها غامضًا فى الوقت الراهن، وأكبر دليل على ذلك قرار إدارة الرئيس الأمريكى جون بايدن تجميد ٩.٥ مليار دولار من أصول البنك المركزى الأفغانى ووقف شحنات النقد إلى البلاد، كما أوقفت حكومات أوروبية مساعداتها التنموية، وأوقف صندوق النقد الدولى الوصول إلى حقوق السحب الخاصة لأفغانستان، فضلا عن فرض الحكومات الغربية والوكالات المتعددة الأطراف والجهات المانحة شروطًا صارمة على استئناف التمويل، إذ ستعتمد المساعدات على حفاظ «طالبان» على العديد من الحريات - خاصة للنساء - التى حصل الناس عليها فى غيابهم، وعلى منع عودة ظهور الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، والتزام حركة طالبان بتعهداتها الخاصة بعدم انتهاك حقوق الإنسان وملف الحريات.
يشار أن نصف المجتمع الأفغانى يعيش تحت خط الفقر، وتبلغ نسبة البطالة أكثر من ٤٠٪، ونحو نصف الشعب الأفغانى يعمل بالزراعة.
ومن المتوقع بحسب صندوق النقد الدولى أن تنهار قدرات أجهزة الدولة على تقديم خدمات تعليمية وصحية ولوجستية للسكان، خلال أقل من عام على سيطرة الحركة.
فشلت طالبان فى إقناع الداخل والخارج بأنها ستكون أكثر انفتاحا مما كانت عليه فى ظل حكمها السابق بين عامى ١٩٩٦ و٢٠٠١، عندما اضطهدت النساء وعاقبت معارضيها بقسوة، وأن كانت منحت النساء بعض الحرية فلم يعدن مجبرات على ارتداء البرقع أو حصولهن على مرافق ذكر للخروج، ولكنها فى الوقت نفسه لم تعد الموظفات الحكوميات إلى المكاتب، كذلك أعلنت «طالبان» إعادة فتح المدارس الإعدادية والثانوية للذكور، مستثنية الإناث، بحجة حمايتهم علما أن الخطر الرئيس الذى كان يتهدد المدارس فى السنوات الأخيرة، وهو هجمات «طالبان»، زال مع استيلائها على السلطة.
الأيام القادمة من الممكن أن تشهد محاولات مكثفة من طالبان مع مؤسسات المجتمع الدولي لكسب الدعم والتأييد أملًا فى عودة المساعدات والاستثمارات الأجنبية إذ ينتظر المستثمرون الغربيون الإذن من حكوماتهم، مع الأخذ فى الاعتبار الرأى العام فى بلادهم، إذ ستدرك معظم الشركات الأمريكية والأوروبية رد الفعل المحلى المحتمل ضد ممارسة الأعمال التجارية، بشكل مباشر أو غير ذلك، مع «طالبان».
المخرج الوحيد لحركة طالبان من مأزق الفشل هو أن تحكم بمعايير العالم وفق القوانين الدولية فلم يعد العالم يعيش فى جزر منعزلة، وخاصة أن أفغانستان تحتاج إلى مساعدة العالم ودعمه لها، لذا فهى مطالبة بالانفتاح بصورة جدية على العالم لعدم الدخول فى المنعطف المظلم.
كما يبدو أن الأيام القادمة ستكون حبلى بمزيد من الصدام والصراع بين حركة طالبان التى تسيطر على معظم الأراضى الأفغانية، وبين تنظيم داعش الإرهابى الذى يسيطر على بعض المناطق الحدودية، ويشن عمليات من آن لآخر، إذ تسعى حركة طالبان فى الوقت الراهن تقويض مخططات داعش التى تسعى إلى السيطرة على مناطق حدودية مع باكستان، وإجهاض مشاريعه التوسعية فى البلاد، ووصل الخلاف قمته إذ وصف قيادات داعش، الحركة بـ«البرمجاتية» والتخلى عن القيم الدينية مقابل مكاسب دنيوية، وقياداتها مناهضى المشروع الجهادى كفار ومرتدين.
حركة طالبان ترى أن مواجهة التنظيم ودحره أمر لا مفر منه حتى تستطيع الوفاء بتعهداتها للمجتمع الدولى بعدم بالسماح بتحول أفغانستان إلى مسرح وبيئة خصبة للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، كما أن العمليات الإرهابية التى تضرب البلاد من آن لآخر تضرب مصداقية طالبان وتهز ثقة الشعب الأفغانى فى قدرتها على حفظ أمن البلاد وسلامة المواطنين، إذ بات ظاهرًا عجزها عن ملء الفراغ الأمنى والعسكرى الناجم عن انسحاب قوات التحالف الدولى، ولا سيما أن طالبان أعلنت بعد سيطرتها على كابول فى أغسطس ٢٠٢١ أن الأرض الأفغانية لن تستخدم مطلقًا بعد الآن لشن هجمات إرهابية.
ولهذا السبب، فرضت الهجمات الإرهابية العلنية لـ«داعش خراسان» ضغطًا متزايدًا على طالبان المطالبة بمعالجة عدد من الملفات الحارقة بسرعة، لكى ترد بقوة لاحتوائها، كما أن قدرة طالبان على قمع النشاط العنيف تعتبر أيضًا اختبارًا رئيسيًّا لحكمها المبكر.
لذا ليس مستبعدا أن تستخدم طالبان ورقة العداء مع داعش ودحره فى الحصول على اعتراف صريح من المجتمع الدولى بشرعيتها، والدعم الاقتصادى والاستخباراتى لها مقابل أن تحارب التنظيم الإرهابى على الأرض.