انحسار المساحة المتاحة للأعمال الثقافية بشكل عام والإبداعات الأدبية بشكل خاص أصبح أمرًا واضحًا خلال العقد الأخير، وواكب ذلك انحسار أكبر فى عدد الإصدارات الصحفية التقليدية بشكلها المكتوب كما شهدنا فى الوقت نفسه غروب نجم عدد من المؤسسات الصحفية الكبيرة وصعود بطىء لمؤسسات جديدة أخرى تكافح لتظل فى الساحة تقاتل من أجل البقاء فى ظل أزمة وجود تواجه المهنة بشكل عام.
أزمة الصحافة الثقافية إذن مزدوجة، فهى تعانى أولا من انحسار عدد الإصدارات الصحفية، كما تعانى الآن انحسارًا آخر فى المساحة المتاحة لنشر الأعمال الأدبية والثقافية بشكل عام فى كل الإصدارات المتاحة حاليًا، سواء كانت إصدارات خاصة أو حزبية أو مما تملكه الدولة.
الإصدارات الصحفية الأدبية المنوعة ربما كانت أقل تطورًا عما كان قبل، كما أنها خلت تقريبا من الأسماء الكبيرة التى كانت تقود العمل الصحفى فى تلك الإصدارات والتى كانت فى وقت قريب تضم نجوما لامعة فى مجال الأدب والإبداع، منهم رجاء النقاش وأحمد عبدالمعطى حجازى وثروت أباظة وجمال الغيطانى وفاروق جويدة وغيرهم.
وعلى الرغم من الإصدارات التى تصدرها وزارة الثقافة بقطاعاتها المختلفة إلا أن الصحف السيارة هى الأكثر انتشارا، خاصة بعد أن استفادت تلك الصحف من التكنولوجيا الحديثة فى الاتصالات مثل الإنترنت، فأصبحت مواقعها الإلكترونية نافذة سهلة ورخيصة، يمكن للجميع الاطلاع عليها فى مصر وخارج مصر، فى حين ما زالت الإصدارات المتخصصة التى تصدرها وزارة الثقافة تفتقر إلى هذه الميزة التى تتيح للقارئ العربى فى مصر وخارج مصر أن يطلع على محتواها بسهولة ويسر.
واكب انحسار الإصدارات الصحفية، انحسار آخر فى الصحافة التليفزيونية، فرغم زيادة أعداد القنوات الخاصة بجانب أعداد القنوات التى يبثها التليفزيون الرسمى للدولة، فإننا وللمفارقة لم نشهد إضافة حقيقية فى البرامج التليفزيونية الثقافية فى القنوات الجديدة، سواء الخاصة أو الحكومية إلا فيما ندر من البرامج أهمها برنامج «فى المساء مع قصواء» الذى تقدمه الإعلامية المجتهدة قصواء الخلالى على قناة سى بى سي.
وفى القنوات الحكومية يتم ابتذال المحتوى الأدبى من خلال قناة «النيل الثقافية»، وهى القناة الرسمية فى التليفزيون المصرى التى تبث برامج ثقافية متخصصة فى كل مجالات الإبداع والثقافة، فالمحتوى الذى يتم تقديمه يسىء للكيان الثقافى فى مصر، لأن معظم من تتم استضافتهم عبرها من أنصاف الموهوبين، وأنصاف المثقفين، وتصديرهم عبر القناة يسيء للحركة الثقافية المصرية، خاصة أن القناة المذكورة تبث عبر الأقمار الصناعية لكل أنحاء العالم.
وربما يكون هناك بعض العذر للقناة نظرًا لرفض كبار المثقفين قبول الاستضافة فيها والظهور عليها، وهو أمر شائع فى كل قنوات التليفزيون المصرى، خاصة فى السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى سوء الخدمات التى تقدم للضيوف، وتقدمه القنوات الخاصة، خاصة أن هؤلاء الضيوف يعانون كثيرا من زحام المواصلات وبعضهم لا تتوفر لديه سيارة خاصة.
يتزامن هذا التراجع مع تراجع مستوى مقدمى البرامج الثقافية التى كانت تعج بالنجوم، أبرزهم الشاعر والمثقف الكبير فاروق شوشة، والشاعر المعروف جمال الشاعر، فضلا عن الصوت الإذاعى الموسوعى عمر بطيشة، والسيدة نادية صالح والشاعر الكبير إبراهيم أبوسنة. وخلت الساحة تقريبا إلا من قلة نادرة ما زالت تكافح مثل الأستاذ الشاعر السيد حسن فى الإذاعة المصرية.
فى المقابل أصبحت برامج الطبخ هى السلعة السائدة التى تستحوذ على كل القنوات، بل إن هناك قنوات تم تخصيصها للطبخ فقط، ولا توجد قناة خاصة- وهى القنوات الأكثر مشاهدة الآن وانتشارا- تهتم بتقديم البرامج الثقافية التى تهتم بالإبداع الأدبى بشكل خاص، ولذلك أصبحنا نفتقر إلى نجوم فى عالم الأدب يهتم القارئ بمتابعتهم كما كان فى السابق.
كل هذه العوامل أدت إلى إثقال كاهل المثقف والمبدع بالترويج لنفسه بنفسه، من خلال أساليبه الخاصة، فى الوصول إلى القارئ من خلال الندوات المحدودة التى لا يحضرها غالبا إلا قلة محدودة من المهتمين والنخبة، أو من خلال بحثه عمن يكتب عنه مقالات نقدية أو خبر هنا أو هناك ليبرز عمله. وهى جميعا طرق لا يجيدها إلا أصحاب الحظوة من الأصدقاء، أو من يسمون «الشلة»،التى لا تخدم سوى أعضائها دون غيرهم، مهما كانت قيمة العمل أو مستواه.
نحن بحاجة ماسة لإعادة النظر فى كل ما سبق، وإلا سيكون نجيب محفوظ هو أول وآخر الحاصلين على نوبل، خاصة أن لدينا مواهب قادرة، على أن تسير على الدرب فى مجالات القصة والرواية والشعر والنقد، لكنهم يعانون من التجاهل، أو لنقل قلة الأضواء على ما يقدمونه من إبداع.
آراء حرة
لماذا انحسرت الصحافة الثقافية؟
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق