توديع الماضى يتضمن فض النزاع النفسى بيننا وبين التوقعات التى كان ينتظرها الآباء
«اللى فات مات».. من الأمثلة الشعبية الشائعة، لكن عند الكثيرين منا فإن «اللى فات مماتش» حيث يظل الماضى «أو بمعنى أدق: إساءات الماضي» فى أحيان كثيرة يتحكم فى حاضرنا دون أن ندري، وهو أمر مؤذٍ جدًا لأنه يمنعنا من استثمار فرص السعادة والنمو ويعطل طاقاتنا. وإنك لا تستطيع التحرر من شيء وأنت لا تدرك أنك متعلق به وأنه يؤثر عليك، فكيف تعرف أنك متعلق بالماضي؟
8 مظاهر للتعلق بالماضى
1- عدم وجود حدود فاصلة بين الأسرة الحالية وأسرة المنشأ، ويأخذ ذلك عدة صور:
- التدخل الاقتصادى الذى يفتح الباب لأشكال أخرى من التدخل.
- عدم احترام الخصوصية: حيث تقدم الزوجة لأمها «أو الزوج لأمه» تقريرًا يوميًا عما يجرى فى بيتها، أو يشعر الابن بالتزام خاص تجاه أسرة المنشأ بشكل يجعلهم لا يدركون الحدود، أو تقوم الأم باستبدال زوجها بابنها الأكبر فتعتمد عليه بشكل شبه كلى فى قضاء حوائجها والتسرية عنها وحل مشكلاتها لوفاة الزوج مثلًا أو وجود خلافات معه مما قد يدفعها –لاشعوريًا- إلى منعه من الزواج أو بشكل يجعل زوجته تشعر وكأن حماتها منافس لها فى حب واهتمام زوجها.
- تدخل الجدود والجدات فى طريقة تربية الأحفاد، وعدم قدرة الآباء على منعهم رغم عدم رضائهم عن هذه التدخلات
- التدخل فى اختيارات الأبناء –سواء كانوا متزوجين أم لا- رغم أنهم أصبحوا أشخاصًا بالغين مسئولين عن أنفسهم
- هناك صورة أخرى للحدود غير الصحية «غير تلاشى الحدود كما فى الأمثلة السابقة» وهى الجفاء أو انقطاع العلاقة تمامًا
2- السعى إلى إرضاء الوالدين أو التمرد عليهم: قد يعيش الشخص حياة غير تلك التى يريدها، حيث يتخذ فى حياته الحاضرة مواقف بدافع إرضاء والديه، وتحقيق أهدافهما ومقابلة توقعاتهما والسعى إلى نيل كلمة ثناء منهما. وقد يفعل العكس تمامًا فيتمرد عليهما، ويقوم بالضبط بعكس ما كانا يطلبانه. وفى كلتا الحالتين ما زال هذا الشخص متعلقًا بالماضى لأن اختياراته ليست مبنية على قناعاته الحقيقية ولكنها رد فعل للماضى ولأشخاص فيه.
3- الارتباط بشخص يشبه/ عكس الوالد من الجنس المخالف: أى يتزوج الابن مثلًا من فتاة عكس طباع والدته لنفوره منها وللمشكلات التى تسببت له فيها، أو تبحث الفتاة عن شخص يشبه والدها رغم صفاته السيئة، فتجد الفتاة لأب مدمن تتزوج من شخص مدمن، وذلك على أمل أن تثبت لنفسها أنها قادرة على إصلاح ما لم تتمكن من إصلاحه فى الماضى وكان سببًا فيما تعرضت له من إساءات وما شعرت به من عجز وخوف.
4- تربية الأبناء بنفس/ عكس أسلوب الوالدين: يميل الشخص المتعلق بالماضى إلى تكرار نفس أساليب والديه فى تربية أبنائه رغم انتقاده لها، لأنها صارت جزءًا منه. وقد يفعل العكس تمامًا، فلا يربيهم مثلًا على المسئولية والاحترام لنفوره من أى نقد أو توجيه لما كان يتعرض له من توبيخ وقسوة. والصواب ليس فى القسوة ولا فى التدليل، ولكن فى التوازن بين الحنان والحزم.
5- لا يستطيع التحدث عن ماضيه: نميل إلى دفن الخبرات المؤلمة بإنكارها أو تناسيها أو كبتها، ونجد ألمًا شديدًا فى تذكرها أو التحدث عنها. تعلم أنك تحررت من تأثير إحدى الخبرات المؤلمة عليك عندما تتحدث عنها وكأنك تحكى قصة شخص آخر أو كأنك تقرأ قصة فى جريدة، نعم تتألم وتتأثر ولكنك تستطيع تحمل هذه المشاعر حينئذٍ. تعلم أنك تحررت عندما تختفى رغبتك فى الانتقام والتشفى فيمن أساءوا إليك، وكذلك عندما تختفى مشاعر التعلق المرضية بهم.
6- مشاعر غير مبررة أو مبالغ فيها: كأن يكون لديك خوف غير مبرر من حدوث مكروه، أو شعور دائم بالذنب، أو خوف من الرفض...الخ. وعندما تجد ردود أفعالك تجاه بعض المواقف مبالغًا فيها فتخاف بشدة من أمر بسيط أو تنفجر غاضبًا فى موقف لا يستحق أو فى وجه أشخاص لم يقترفوا سوءًا. وهذا يعنى أن لديك مشاعر مكبوتة. عندما تكبت مشاعرك فإنك لا تزال تتصرف كرد فعل لها. إن الأمر بمثابة أنك تمشى حاملًا خزان وقود بانتظار شرارة الاشتعال. إن إنكار وكبت وتجاهل المشاعر السلبية يجعل الشخص متعلقًا بها، أما عندما يعبر عنها يصبح أكثر سهولة عليه أن يتحرر منها.
7- يشعر أنه مقيد دون أن يعرف السبب: عندما ننشأ فى بيئة مسيئة، فإننا نفرض على أنفسنا بعض القواعد لحماية أنفسنا، مثل: عندما أتزوج لن أفكر فى الانفصال مهما حدث، لن أثق بأحد أبدًا، من الأفضل أن أتجنب أى مخاطرة.. الخ، وعلى الرغم من أن هذه القواعد كان لها مبرر فى طفولتنا وكان الغرض منها حمايتنا، فإن استمرار فرضها على أنفسنا ونحن بالغون يقيدنا ويحد من خياراتنا ويعوقنا عن التقدم والإنجاز.
8- تكرار الخطأ مرارا وتكرارا: يعد ذلك علامة على أن شيئًا ما بماضيك ما زال يتحكم فى قراراتك وطريقة تفكيرك وتصرفاتك.
إن توديع الماضى يتضمن فض النزاع النفسى بيننا وبين التوقعات التى كان ينتظرها منا آباؤنا، وبيننا وبين ما ننتظره منهم أو من الآخرين، وخصوصًا الذين وضعناهم دون أن ندرى مكان الأب والأم وأصبحنا نتوقع منهم توقعات غير واقعية.
يساعدنا على ذلك أن نسعى إلى إقامة علاقة جديدة مع الله نسكب فيها أمامه آلامنا ومخاوفنا، وإلى التواجد فى مجتمع صحى يقدم لنا القبول والدعم، وهو ما سيعيننا بدوره على التصالح مع أنفسنا. وكالعادة، لا تتردد فى طلب المساعدة النفسية المتخصصة إن شعرت بالحاجة إلى ذلك.
من كتاب «صحة العلاقات» لـ«الدكتور أوسم وصفى»