رغم مرور ست سنوات على الرحيل، تظل كتابات الراحل جمال الغيطاني كإرث ضخم ذو قيمة لا تُضاهى، تدل على طريقه الخاص الذي سلكه ليتميز به وسط جيله من العمالقة، خاصة حكاياته عن زمن بعيد ضمته أوراقه.
تعود بداية الغيطاني، الذي مرت ذكرى وفاته مؤخرا، مع الأدب، إلى عام 1959، عندما كتب أول قصة قصيرة بعنوان "نهاية السكير"، ثُم نشر أول قصة في يوليو 1963 هي "زيارة" في مجلة الأديب اللبنانية، وفي نفس الشهر نشر مقالًا حول كتاب مُترجمَ عن القصة السيكولوجية في مجلة "الأدب" التي كان يُحررها الشيخ أمين الخولي، ثُم نشر عشرات القصص القصيرة في الصحف والمجلات المصرية والعربية.
بعدها، نشر قصتين طويلتين هُما "حكايات موظف كبير جدًا"، و"حكايات موظف صغير جدًا"، وصدر له أول كتاب عام 1969، هو "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، مُتضمنا خمس قصص قصيرة كتبتها كلها بعد هزيمة 1967، ولاقى الكتاب ترحيبًا من القراء والنقاد، حيث أعتبرها البعض بداية مرحلة مختلفة للقصة المصرية القصيرة.
عندما أنهى الغيطاني قصته القصيرة "المقشرة" في أعقاب نكسة 1967 بأيام قليلة ذهب بها إلى الكاتب الصحفي عبدالفتاح الجمل، والذي كان مسؤولًا عن تحرير ملحق المساء الثقافي، والذي قرأ القصة وقال له: "يا ابن الإيه.. أنت فتحت سكة جديدة في القصة القصيرة"، وقتها كان هناك جيل جديد غاضب يبحث عن طريق آخر يختلف عن الطرق التي سبقته، وكانت قصة الغيطاني غاضبة كصاحبها الذي كان قد خرج من المعتقل السياسي قبل شهور من الهزيمة، وكانت الرقابة تحكم قبضتها الشديدة على كل منافذ الإبداع، ولكن الجمل قام بنشر القصة على الفور، وأخبر الرقيب يومها أن هذا الأديب الشاب وجد مخطوطًا تراثيًا قديمًا يكتب عنه.
في ذلك الوقت كان كل الكُتّاب يتجهون إلى الكتابة وفق نموذج غربي، على عكس الغيطاني الذي كان يبحث عن هذا الاختلاف والنبرة الخاصة، وهو ما وجده في تلك الأيام في النصوص القديمة غير المطروقة، سواء محاضر المحاكم الشرعية، والملاحم الشعبية، وما كتبه ابن إياس، وألف ليلة وليلة.
ومن مجموعته القصصية "حكاية شاب عاش ألف عام" وحتى روايته "حكايات هائمة"، سنجده من أولئك الذين كانوا يحاولون تغيير العالم الذي لا يتغير، آمن بأن الذات تختفي لمصلحة القضايا الكبرى، أما في رواية "التجليات" فقد بدأ ظهورًا خافتًا للذات، فلم يستطع وهو يكتب نصًا في رثاء والده، ألا أن يعود إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والإمام الحسين بن على ليكتب عنهما، فدائمًا ما كان التراث والماضي ساحته التي يعرف كل جزء منها.
وحتى التمرد على القضايا الكبرى لدى الغيطاني بدأ مبكرًا، فكان اطلاعه على الحقائق الكونية والعلوم والفلسفة جعله يخرج من محدودية الرؤية القاصرة إلى الأسئلة الفنية، أسئلة الطفولة الأولى، وفي "حكايات هائمة" تحرر الغيطاني تمامًا من سطوة المفاهيم القديمة عن الكتابة باعتبارها رسالة أو شهادة على الواقع، تختفي فيها الذات لمصلحة الجماعة، والمتعة لمصلحة الفكرة، فكانت الكتابة لديه في هذه الحكايات أقرب إلى مفهوم الخوض في المعنى الفني، فخرجت بشكل يصعب تصنيفه تقليديًا، وتراوح النص بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية، وجاءت الأسئلة فيه أسئلته هو الخاصة لا أسئلة الجماعة، وتحرر فيه من أسر الشكل التقليدي وعبوديته، فكانت الكتابة حرة تتداعى فيها الذاكرة سواء كانت الحكايات لها ظل من الواقع أو من الخيال، فهكذا قرأ جمهور الغيطاني عن مراجع داخل العمل ليس لها وجود، وشخصيات لم تولد بعد، واستمتع بنصوص مليئة من الفلسفة ومن التصوف، ومن الشعر ومن الخيال، كما فعل مع النص الخالد "ألف ليلة وليلة" التي حوّلها إلى ليالي الغيطاني، طارحًا أسئلة حول والوجود، والزمان، والموت ليصل بقارئه إلى همّ رئيسي هو الذاكرة.
في كتابه "القاهرة في ألف سنة"، تناول الغيطاني ملامح من تاريخ القاهرة في ألف عام هو عمر هذه المدينة العريقة التي بناها جوهر الصقلي بأمر من الخليفة الفاطمى المعز لدين الله في العام 969م. وتحدث في هذا الكتاب عن عدة موضوعات منها النرجيلة، العمامة المملوكية، الخيول المملوكية، أسواق القاهرة العربية، مسجد المؤيد، مسجد الحاكم بأمر الله، مآذن القاهرة، بيوت القاهرة القديمة، الباب الدامى، مجالس السلطان الغوري، النشو، خايربك، مصاحف نادرة في القاهرة، متحف حى للآثار الإسلامية، أسرار الأهرام.
ذكر الغيطاني في هذا الكتاب أن دار الكتب المصرية تحتوي على مجموعة من أندر الصحف الشريفة يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجري، وقد كُتب بعضها فوق رق الغزال والبعض الآخر كُتب فوق عظام الجمال، ونسخ أخرى من عصور شتى قديمة ووسطى وحديثة.
وأوضح أن سلاطين المماليك كانوا ينفقون الأموال الطائلة على نسخ المصاحف وتذهيبها خاصة المصاحف التي خصصت للمساجد التي تحمل أسماءهم والتي شيدوها أيضا لتكون مثواهم الأخير.
وأشار الغيطاني، إلى أن تذهيب المصاحف تعد ذروة الفن العربي الذي عُرف في تجميل المخطوطات وزخرفتها، فتلوين المصاحف وزخرفتها يتم بداية في حدود معينة اقتصر على أجزاء من الصفحات مثل الأشرطة التي تفصل بين السور وبعضها والفواصل بين الآيات القرآنية وبعض العناصر الزخرفية التي تدل على أجزاء المصاحف وأقسامه كالنصف والربع. ويذكر كذلك أن الشريط الذي يحيط بالصفحة الواحدة أهم هذه الأجزاء حيث زينت بعناصر زخرفية مختلفة فيها الجدائل والأشكال المتشابكة أو رسوم هندسية من دوائر أو أجزاء من دوائر أو مربعات صغيرة تتداخل وتتفرق وتتلاقى وتتباعد وتتماس أو تتقاطع كالمصائر الإنسانية والمعاني.
وتابع: فواصل الآيات كانت في معظمها دوائر أما علامات الأجزاء كانت دوائر في داخلها مربعات تتداخل مكونة أشكالا نجمية مع البؤرة منها ويكتب ما يدل على الجزء في هذه الزخارف وأُستخدم فيها الألوان الذهبية والزرقاء والخضراء وأحيانا الحمراء وكانت الرسوم تتحدد باللون الأسود.