لماذا تقف هكذا وحيدًا ..؟
ولماذا تتلفت فى كل اتجاه دون أن تدرك شيئًا .. حائرًا، وعندما اصطدم بك الرجل الذي يسكن غرفة على سطح العمارة التي تقطنها، نظرت إليه ونظر إليك دون كلمات، كنت تعرفه فهو يعمل أجيرًا فى أشياء كثيرة، مثل أي عامل باليومية، وأردت أن تعتذر له، ولكنه تجاوزك فى ضيق دون أن يلتفت، هممت بأن تتكلم، لكن عرق غزير هبط من جبهتك وعنقك الآن.
توقفت سيارة أجرة وحملتك إلى آخر الشارع، لأنك أردت أن تستقل المترو، جلست فى المقعد الخلفي وكان السائق ينظر إليك عبر مرآته، قال إنك أول زبون فى سيارته الجديدة وابتسم، فابتسمت بدورك. وفورًا أدار تكييف السيارة، استرخيت في التو وانتابك خدر السيارات المسرعة على طريق ناعم، وتسلل إليك خيط نعاس. قاومت النوم وعندما رأيت السائق يقود مبتهجًا كمن يعزف لحنًا على آلة صماء انتبهت. هبطت في آخر الشارع لتفكر في أشياء. بحثت عن المرأة التى تبيع السجائر على الرصيف بجوار محطة المترو، لم تجدها واندهشت! قررت العبور إلى الاتجاه الآخر من الشارع حيث يوجد كشك لبيع السجائر، وفجأة رأيتها أمام متجر ترتدى بنطالاً من الجينز وبلوزة حمراء، وفجأة تذكرت محيّاها بملابسها السوداء على الرصيف وأمامها صندوق السجائر، دعتك فجأة للدخول، وفوراً منحتك علبة سجائر، قالت إنها احتفظت بها لك وإنها هدية بمناسبة افتتاح محلها الجديد للملابس.
حدث هذا سريعاً، دون أن تملك فرصة لإبداء دهشة. أفقت من المفاجآت المتوالية كطلقات رصاص ثم انتبهت، وبدأت تستعيد توازنك، ورأيتها تضع يدًا فى منتصف جسدها بدلال وتمد يدهـا الآخرى بعلبة السجائر، وكانت تضحك وكنتَ تنظر هكذا فقط!
ثم أخيرا قررت فجأة ألا تذهب لعملك، لأنه يبدو لك يومًا غير عادي.
قفلت راجعًا لتعود إلى نقطة انطلاقك بسرعة مشي مبالغ فيها، وكان الرجل الذى يسكن غرفة على سطح العمارة التى تقطنها عائدًا يحمل حقيبة المتجر الشهير ولكنه تجنب الاصطدام بك هذه المرة. قلت له باضطراب "اسمع.. أنا آسف" و "لم أكن أقصد" ، واستطعت أن تلمح جانبًا من تسوقه: لفة من الجبن الرومي وآخرى فلامنكو وعلبة مربى ولتر لبن وبرطمان عسل أبيض إلى جانب كيس كبير من "الكورن فلكس" والبطاطس المحمرة فاندهشت لوجبة إفطـار غير عادية في يوم غير عادي لرجل عادي.
كان قد تجاوزك وعدت تفكر – فى هدوء هذه المرة – وأنت تتأمله. ولكنه استدار فجأة ومشى نحوك قائلاً :
- ليس من اللائق أبدًا -أيها المحترم- ! أن تتجول هكذا! لن أسمح لك أبدًا!!
- .... ؟!
- أنت حتى لا تفهم!
- .... ؟!
ضحك الرجل الذى يسكن غرفة سطح العمارة التى تقطنها.. ومضى بحقيبة تسوقه.
الآن تمر سيدة تعرفها جيدًا، تدفع أمامها عربة رضيع، كانت تتوقف بعد كل بضع خطوات وتنظر إلى العربة، وعندما تتأكد من وجود الرضيع يلتمع بريق ساحر فى عينيها، نظرت إليك في غضب وهي تسوي الغطاء على جسد الرضيع، ثم تلفتت وصرخت فيمن حولها..
- قولوا لهذا الشخص أن يتوقف عن التجول فى أحلامي!!
نظرت إليها بذهولٍ وبصمت من يرى أشياء لا تُرى، التفتّ ورأيت إمام المسجد القريب جالسًا على المقهى المقابل، مسترخيًا يضع قدمًا على قدم ويدخن الشيشة.. نظر إليك ضاحكًا بصوت مرتفع جداً..
- تعال ودخن معي .. هيا..!
تركتهم وعدوت مسرعًا حتى آخر الشارع، لأنك قررت فجأة أن تذهب لعملك لتبتعد عن هذه الأجواء. كنت متأكدًا أنك لا تحلم، لأنك من الأشخاص الذين لا يحلمون أبدًا.
كل ما يمكن قوله: إنك ارتبكت وخالطك شعور بالجنون. توقفت فى المكان الذي كانت تبيع فيه المرأة سجائرها ورأيتها تتطلع إليك من الجانب الآخر أمام دكانها، فى هذه اللحظة تحديدًا توقفت سيارة الأجرة التي كانت قد حملتك فى البداية، وقال السائق مبتسمًا : توجد أجرة ركوب حتى وأنت تتجول فى أحلامي يا صديقي. تذكرت أنك قد نسيت كعادتك فى النسيان. أخرجت الأجرة وأنت تشعر بدوار.
وانطلقت السيارة أمامك، فشعرت بالرغبة فى البكاء، وناداك بائع الجرائد ليسألك إذا ما كنت ستشتري جريدة.. واندهشت من زيه وكان يرتدي بدلة سوداء ويدخن نوعًا فاخرًا من السيجار ، تأملته وانطلقت منك ضحكات مباغتة ....
تركته دونما هدف وأنت تضحك وتتحسس رأسك، وأخيرًا مضيت إلى حالك.
وحالك أوصلك إلى مقر عملك فى البنك.. جلست على مكتبك بعينين غائمتين متتبعًا تفاصيل اليوم، راصدًا كل شيء بدءًا من الشارع فمحطة المترو ثم تفاصيل الشارع حيث يقع البنك، ، ورأيتها زميلة العمل فى المكتب المقابل لمكتبك، تتأمل صورة فوتوغرافية لشخص وتمسك وتمسك بيدها الأخرى وردًا، وعندما اقترب عميل لتوقع على شيكه بقبول الصرف رأيتها ترسم على الشيك قلبًا يخترقه سهم! وما أثار دهشتك أن العميل شكرها، وأن شباك الصرف فى ردهة البنك صرف الشيك بصورة طبيعية!!
إذاً لماذا؟!
تركت كل شئ واندفعت فى الشارع فى هذا اليوم غير العادي، وعدت تتأمل المارة والمحال والباعة مرتعشًا ومستغرقًا فى التفكير فى أنك ربما تحلم لأول مرة، ولا بد أن يتوقف كل شيء . لكن الذى توقف ولد صغير يحمل أوراقًا وقلمًا فى يد وفى اليد الأخرى قرطاسًا من الأيس كريم.. نظر إليك كمن يتأمل تمثالاً وقال: إنه يود أن يكون مثلك !
تركته ومشيت مسرعًا، التفتّ إليه من بعيد وكان ما يزال يشير إليك، وحين كفّ الصبى ومضى فى طريقه، تباطأ مشيك حتى توقفت أخيراً، التفتّ وصادفتك مرآة أحد المحال التجارية فاتسعت عيناك:
كيف لم تستطع أن تنظر في مرآة، لترى هذا الطيف الذى يشبهك حاملاً على يديه كتبًا وأوراقًا وفى اليد الأخرى قلمًا بطول قامتك! كيف لم تستطع أن تنظر أو تحاول مجرد محاولة ، فى هذا اليوم غير العادي.