تتباين الآراء والمواقف بشأن ما حدث فى أفغانستان خلال الأسابيع الماضية. وينطلق هذا التباين من تضارب المصالح والمواقف السياسية والاقتصادية والأيديولوجية بين المحللين والسياسيين، سواء داخل أو خارج الولايات المتحدة وأفغانستان.
وحتى لا ندخل فى حديث مكرر، تناولته الأقلام والأحاديث والمقابلات، نفضل أن نسلك مسلكا أخر، وهو تناول المسألة من منظور تفاوضى، ونلخص رأينا على النحو التالى:
١ـ الأطراف: الأطراف فى هذه المسألة كثيرة جدا، منها الدول والمنظمات، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وحلف الناتو ومجلس الأمن وروسيا والصين وقطر وايران وباكستان والهند وإسرائيل والدول المناهضة للإسلام السياسى وغيرها.
كذلك داخل الولايات المتحدة، مثل البيت الأبيض والحزبين الديمقراطى والجمهورى ومجلسى النواب والشيوخ ووزارات الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومى والجيش وغير ذلك. وداخل أفغانستان، مثل: الحكومة الأفغانية والجيش الأفغانى وحركة طالبان والحركات والمجموعات الأخرى. وعندما قررت أمريكا بشكل نهائى الانسحاب من افغانستان، قامت دون تردد أو تشاور أو انتظار، بتطبيق القاعدة الذهبية فى السياسات التفاوضية، عندما يُراد الإنجاز السريع، وهى التفاوض فقط بين الأطراف الفاعلة والتى بيدها القرار، دون اضاعة الوقت والتشتت والتعطيل مع أطراف تابعة، تتباين مفاهيمها ومصالحها. وبالتالى تم حصر التفاوض أساسا بين البيت الأبيض وحركة طالبان، وهو ما أدى إلى هذا التسارع فى التوافق والاتفاق.
٢ـ مائدة التفاوض: تم قصرها على دولة قطر، والتى يسعدها أداء هذا الدور، وتقديم جميع التسهيلات وبشكل فورى، دون التظر لأية تكاليف مادية تتحملها طوعا، ودون استرداد.
٣ـ عامل الوقت: حددت الولايات المتحدة تاريخا معينا كحد أقصى للإنسحاب (٣١ أغسطس) مما شجع طالبان على تقديم كل دعم ومساعدة ممكنة للولايات المتحدة لتنفيذ الانسحاب. وأصبح الالتزام بهذا التاريخ يمثل نجاحا لكلا الطرفين. أمريكا تجلى أفرادها وتعيدهم للوطن وطالبان تحقق جلاء المحتل. وبذلك حيدت أمريكا عامل الوقت من اللعب به كورقة للتفاوض.
٤ـ عامل القوة: نجحت أمريكا فى تحييد عامل القوة والتناطح بينها وبين طالبان. وأوقفت كافة عملياتها ضدها، وتركتها تسيطر على الأراضى الأفغانية. وهو ما نزع فتيل عدم التكافؤ بين الطرفين، من حيث تفوق أمريكا فى القوة النظامية، وتفوق طالبان فى غير النظامية (كانت المراحل الأخيرة فى التفاوض مع فيتنام تتم تحت اقصى درجات القصف العنيف، وكان الانسحاب الأمريكى من افغانستان يتم تحت حراسة ورعاية وتسهيلات ومخابرات طالبان!!)
٥-انضباط عمليات التهديد:نجح الطرفان بامتياز فى هذا الشأن. فعمليات التهديد والوعيد قد تكون لها أثارا مدمرة على العملية التفاوضية، خاصة فى ظل تباين الثقافات. ظلت أمريكا تردد بأنها ملتزمة بتاريخ إتمام الإنسحاب وتتمنى ألا تضطر لمده أياما معدوده. واكتفت طالبان بأنها ستعتبر الوجود الأمريكى بعد التاريخ المحدد «احتلالا».دون أى تهديد أو وعيد، وحيث إن الاحتلال كان ممتدا طوال عشرين عام، إذا ما قالته طالبان هو مجرد تقرير لواقع
٦ـ اختيار نوع العملية التفاوضية: نعلم أن هناك نوعين رئيسيين فى هذا الشأن. المفاوضة التكاملية (حيث يعمل الطرفان معا على زيادة حصة كل طرف من الفوائد) Integrative والمفاوضة التقسيمية أو التوزيعية (حيث ما يحصل عليه طرف، يكون مخصوما من حصة الطرف الأخر) Distributive. وقد نجح الطرفان فى استخدام كلا النوعين. فحماية طالبان لعملية الانسحاب تمثل (مفاوضة تكاملية) يستفيد منها الطرفان [سلامة المنسحب وتحقيق الجلاء] وتدمير أمريكا للطائرات والأسلحة (مفاوضة توزيعية) فقد حرمت طالبان منها.
٧ـ القيادة: نجح بايدن فى تكوين قيادة محدودة من رؤساء الأجهزة ذات العلاقة، ونجح فى تحقيق توافق واقتناع تام بينهم على تحقيق الانسحاب. ونجحت قيادة طالبان فى التحدث بلسان واحد، ولم تظهر أية خلافات لا علنية ولا سرية بينهم. وهو ما سهل عملية التفاوض
٨- القفز على توسيع أجندة التفاوض: من أخطر معوقات نجاح العملية التفاوضية هو زيادة الموضوعات التى يتم التفاوض عليها. كان بمقدور طالبان أن تطلب الزام أمريكا بالتعهد بدفع تعويضات عما ارتكبته من قتل وتدمير. وكان بمقدور أمريكا أن تطالب طالبان بالتعهد بإشراك غيرها وتنفيذ عدد من التعهدات. كل هذا لم يحدث، واكتفت أمريكا بالقول بأنها ستحكم على طالبان بأفعالها المستقبلية. واكتفت طالبان برغبتها فى علاقات جيدة مع أمريكا
٩ـ التحديد الواضح للأهداف الإستراتيجية: وهو أمر يقود العملية التفاوضية فى طريق محدد المعالم دون دخولها فى منعطفات جانبية معطلة ومعقدة ومولدة للخلافات.لقد حددت أمريكا هدفها الاستراتيجى فى إجلاء هذا العدد الهائل من الأمريكيين بأقل خسائر بشرية ممكنة وفى الوقت المحدد. وسواء كان الأمريكان جنودا أو عملاء مخابرات مركزية أو دبلوماسيين أو موظفين أو رجال أعمال أو مقيمين أو أفغان متعاونين أوجواسيس ومن على شاكلتهم. وكان هدف طالبان هو السيطرة على الدولة وانسحاب الولايات المتحدة دون خوض قتال مدمر قد يستمر لسنين أخرى طويلة قد تتبدل فيها الظروف والأوضاع، وفى الوقت المحدد. وقد التقت إدارة الطرفان دون الأخذ فى الاعتبار وجهات نظر الأطراف الأخرى.
١٠- الخاتمة: هناك عشرات العناصر الأخرى التى يمكن تناولها، ولا تسمح بها مساحة المقام، وهى مفاوضات حيدت كل الاطراف وعزلت كل المعوقات وشقت طريقها لأهدافها.