يُعرف الخالدون حينما يصير الموت إنجازهم الأخير، نحتفي به -نحن الأحياء- كما لو كان أبرز ما قاموا به. هكذا تُبنى الأضرحة وتُقام الموالد، ويعود الدراويش والمريدين لتكرار الهمسات حول كرامات من نحتفي بهم. حكاية تلو الأخرى، يصير الاسم أسطورة تتناقلها الألسن وتتناوب الهمسات إذكاء نارها عبر السنوات. بهذا المنطق صرنا نعرف الثلاثين من أغسطس باعتباره إنجاز نجيب محفوظ الأخير، وهو اليوم الذي رحل فيه عن عالمنا، تاركًا عالمًا من الحكايات لا ينضب تأويله، وذكريات مع المريدين والتلامذة يفخرون بها حتى يلاقوه يومًا، ونحن بالمثل، نغوص مرة بعد الأخرى في حكايات النجيب، عسى أن نجد زاوية أخرى للحكاية.
حكايات النجيب نسج بها عالمًا سحريًا، سمعنا فيه اصطدام النبابيت وهرولة الحرافيش، رأينا القاهرة الثلاثينية بروعتها وفسادها، اصطدمنا بأحلام الناصرية وروعتنا صرخة انكسارها لتنتهي بثرثرة فوق النيل، وضعه أولاد حارتنا في أعلى مكانة أدبية في العالم، بينما كانوا أنفسهم من دفعوا الجهلاء لمحاولة اغتياله. حتى عندما عجز عن الإمساك بالقلم كانت أحلامه نوعًا آخر من الإبداع نفضته قريحة ابن حي الحسين المولود عام 1911، وهو ابن الموظف عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا، الذي لم يكن يقرأ في حياته غير القرآن الكريم. كان نجيب أصغر أشقائه، وكان الفرق بينه وبين أقرب أشقائه عشر سنوات، وهو الأمر الذي جعله وحيدًا يتأثر بحكايات الماضي.
في سن العاشرة انتقل إلى حي العباسية، وحصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة، وشرع بعدها في إعداد رسالة الماجستير عن الجمال في الفلسفة الإسلامية، لكنه عدل عن قراره وركّز على الأدب، عمل سكرتيرًا برلمانيًا في وزارة الأوقاف، ثم مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى عام 1954، ثم مديرا لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة وعمل مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية، وآخر منصب حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما حتى عام 1971، وتقاعد ليصبح أحد كتاب مؤسسة الأهرام.
بدأ النجيب الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وترك حي الجمالية داخله أثرًا كبيرًا، لاختلاط قدسية المكان بالواقع المعاصر المحافظ على ملامحه وتاريخه القديم "وكأنك تعيش أكثر من عصر في زمن واحد"، حسب ما قال في حديثه للإذاعي عمر بطيشه، ويقول عن هذا الحي "منذ مولدي في حي سيدنا الحسين وتحديدًا في يوم الإثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي، حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية، كانت متعتي الروحية الكبرى هي أن أذهب لزيارة الحسين، وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحي إلى أصدقائي، فتحت أي ظرف لا بد أن تكون السهرة في الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل لا نعود إلى منازلنا إلا بعد جلسة طويلة في الفيشاوي نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث".
كانت قصص محفوظ تنشر في مجلة الرسالة عام 1939، وجاءت روايته الأولى لتحمل اسم "عبث الأقدار"، وجاءت كتاباته الأولى كالقاهرة الجديدة وزقاق المدق وخان الخليلي وبداية ونهاية والثلاثية، معبرة عن الفترة الزمنية التى عاشت فيها مصر بعد الحرب العالمية الأولى وما قبل ثورة 1952، وتنبأ بالسقوط والانهيار في رواية "ثرثرة فوق النيل"، وجاءت "ملحمة الحرافيش"، وهي أحد أهم أعماله غير محدّدة الزمان ولا المكان بدقة، فأصبحت مادة رائعة للسينما والدراما التليفزيونية على حد سواء، حيث تمثلت في أكثر من فيلم سينمائي منها "الحرافيش، والمطارد، وشهد الملكة، والجوع، والتوت والنبوت"، إلى جانب مسلسل الحرافيش في أجزائه الثلاثة، كما لم تبتعد رواية الحرافيش كثيرًا عن منحى الوجودية الذي انتحاه نجيب محفوظ في الكثير من رواياته رغم اكتسائها الطابع الاجتماعي. هكذا نرى أن العنوان عند نجيب محفوظ كان أهم هذه العتبات في دائرة البدايات الأولى لمحور النص وخطوطه الأساسية، وهو أيضًا رأس النص ومفتاحه الأساسي، ومن ثم فهو يرتبط بباقي جسم النص، وداخل النص تجد أن الروح والوجدان لصاحب نوبل تشرّبت بروح القاهرة القديمة وحي الحسين بالحواري والأزقة والمساجد والأضرحة، بأناسه رجالًا ونساء، ومجاذيب وشحاذين.
يظهر تعلق نجيب محفوظ بالمكان في أعماله الأدبية بداية من عنوان العمل، مثل زقاق المدق، رادوبيس، كفاح طيبة، القاهرة الجديدة، خان الخليلي، ثلاثية القاهرة: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، قشتمر، وكانت أفضل كتاباته عن الحارة المصرية، حتى حين اختار مكانًا بديلًا للدنيا في رواية "أولاد حارتنا"، كانت الحارة أيضًا، والفتوة من أبرز رموز الحارة، الذي استعمله نجيب محفوظ كغطاء لمعان أخرى مثل الحاكم أو الغازي، أما الحرافيش في أعمال نجيب محفوظ كانت البذرة التي يخرج منها الفتوة، أي حين يفسد الحرافيش يفسد معها الفتوة والعكس صحيح.
اتجه محفوظ إلى الرمزية في روايته الأشهر "أولاد حارتنا"، التي سببت ردود فعلٍ قوية، وكانت بداية نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام عام 1950، ثم توقف النشر في 25 ديسمبر من العام نفسه، بسبب اعتراضات هيئات دينية، ولم تُنشر الرواية كاملة في مصر في تلك الفترة، واقتضى الأمر ثماني سنوات أخرى حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعت في بيروت عام 1967، التي لم يكن ينوي طبعها في مصر إلا بعد الحصول على تصريح من الأزهر بنشرها، إلا أنها طبعت في لبنان وهُرّبت منها بعض النسخ إلى مصر. نتيجة إسهاماته البارزة تحصّل على جائزة نوبل للآداب عام 1988، ويعدّ الأديب العربي الوحيد الحائز عليها، ولكن بسبب حالته الصحية لم يقوَ على السفر لاستلام الجائزة، فأرسل ابنتيه فاطمة وأم كلثوم بدلًا منه.
في أكتوبر 1995، طُعن نجيب محفوظ في عنقه على يد شابٍ كان يريد اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب هذه الرواية، ولم يُتوفّ نجيب محفوظ إثر تلك المحاولة، وأعيد نشر الرواية في مصر عام 2006. بعدها قضى الأستاذ سنواته الأخيرة في محاولات للكتابة "أحلام فترة النقاهة"، ثم بدأ يُمليها على أقرب أصدقاؤه وتلامذته، وكانت الأحلام هي كلماته الأخيرة، حتى غادر عالمنا في 30 أغسطس 2006.
بروفايل
النجيب.. 15 عامًا من الاحتفاء بالرحيل
رسم عالمًا سحريًا لا نزال نخوض فيه
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق