بعد سهرة طويلة قضاها رءوف عبدربه رفقة صديقه عانوس قدري، وأثناء العودة أحس رءوف أنه يقف خارج بوابة التاريخ، مع انعدام الوزن، والغوص في سحابة معتمة اقتحمت الوجود فجأة، وخلال محاولاته لفهم ما يجري شاهد صديقه يشجع بعض الرجال للانتهاء من حفرة بمقاس جثة شاب مطروح بجوارهم ينزف الدم من رأسه، وفي لحظة اكتشف رءوف أن صديقه فعلها وقتله من أجل الحصول على حبيبته رشيدة.
دون أن يراه أحد، شاهد رءوف جثته التي تنزف الدم، وصديقه الذي يحفر له الحفرة ليدفنه، في الوقت نفسه لا أحد يشعر بوجوده، وظن عانوس أنه تخلص من رءوف تمامًا، وبات الحصول على رشيدة أمرًا ميسورا..
بهذه الجريمة تبدأ قصة "السماء السابعة" للأديب العالمي نجيب محفوظ، وهي إحدى قصص مجموعة "الحب فوق هضبة الهرم". الصادرة عام 1979. وفيها يستفيد "محفوظ" تكوين عالمه الفني من الحضارات القديمة مثل الفرعونية، والفلسفات الهندية، والمعتقدات الشعبية.
بعد قتل رءوف، صعدت روحه للسماء الأولى، وهناك قابل "آبو" محام الدفاع عن القادمين الجدد، الذي شغل منصب كاهن مدينة طيبة وهو في الحياة. "آبو" شرح للصاعد الجديد ما يحدث في السماء الأولى، حيث تتم محاسبة كل إنسان وتصدر بحقه أحكام تتراوح ما بين البراءة والإعدام، فالبريء يمكث لمدة عام حتى يتأهل للسماء الثانية، ثم الوصول للفردوس التي تحتاج لمسيرة سنين ضوئية طويلة، أما الإعدام فهو الولادة من جديد والنزول للدنيا لمحاولة الحصول على فرصة أكبر للنجاح، وما بين البراءة والإعدام هناك الإرشاد الروحي، وسيكون على المتهم أن يتولى الإرشاد الروحي لشخص أو أكثر، ويكون صعوده للسماء الثانية مرهونًا بالتوفيق في مهمته الجديدة، وإذا ما أخفق تُمد لها التجربة مجددا، أو يطاله الإعدام.
نشب نقاش بين "آبو" وبين رءوف، كان بمثابة المحاكمة والدفاع وإصدار الحكم، فيه تحدث المتهم عن ظروفه الصعبة واجتهاده في تحصيل العلم وظروف أمه التعيسة التي تعيش على منحة من الأوقاف، لكن ما عرقل وصول قدري للحصول على البراءة هو إجابته على سؤال عن فتوة الحارة الذي يسرق ويقتل ويعيش فوق القانون، حيث سأله "آبو": ماذا كان موقفك؟ فرد رءوف: الرفض والتمرد والرغبة الصادقة في تغيير كل شيء. ففي المحاكمة التي تعرض لها رءوف صدر بحقه حكمًا يقضى به مرشدًا روحيًا، بعدما فشل في الحصول على البراءة لأنه أخفق في الوقوف أمام ظلم الفتوة وتجنيب تعساء الحارة لشروره، الخوف من الفتوة سيطر على رءوف، ما عطله عن الحصول على البراءة بينما راعت المحكمة ظروفه القاسية ومعاملته لأمه فتجنبت الحكم عليه بالإعدام.
يركز "محفوظ" على قدرة الإنسان في التغلب على ضعفه، فيتحلى بالشجاعة ويصبح قادرا على الوقوف أمام الفتوة الشرير، حيث يصبح كل فرد في الحارة ملتزمًا بالدفاع عن الآخرين، وملتزمًا بأخذ موقف فعلي وإيجابي تجاه تعسف الفتوة.
في المدة التي يتم فيها تأهيل رءوف للعمل كمرشد روحي، يتعرف على مصائر الشخصيات التاريخية البارزة، حيث تم الحكم بالإعدام على هتلر لتتم عودته لممارسة الحياة في صورة فتوة الحارة المعلم قدري الجزار، وإعدام اللورد بلفور الذي هبطت روحه ليكون شيخ الحارة، وإعدام أحد خونة ثورة عرابي الذي حلت روحه في الشيخ عاشور الولي الكاذب.
تظهر براعة أديب نوبل في التوفيق ما بين سلوكيات أشرار الحارة وسلوكيات الشخصيات التاريخية، هتلر مثلا المعروف بالقتل والعنف جاءت حياته الجديدة في فتوة شرير يسرق ويقتل، وأما بلفور، السياسي البريطاني، صاحب الوعد المشؤوم، فإن إعدامه وإعادته للحياة من أجل التطهر جاءت في جسد شيخ الحارة الذي يستحوذ عليه الفتوة ويشتريه، لتظهر رسالة "محفوظ" حول سلوكيات أشرار التاريخ الذين أُتيحت لهم فرصة التطهر في الحياة، لكنهم استمروا في ممارسة أدوارهم القديمة، وكل ذلك بفعل منح الحرية للإنسان في اختيار أفعاله كي يكون مسئولا أمام محاكمة السماء.
طريقة "محفوظ" في فهم وتقريب التاريخ مستمرة، حيث تعامل مع النماذج البشرية في الحارة الشعبية الشبيهة بالشخصيات التاريخية، وقريب من هذه التقنية ما فعله في أولاد حارتنا، عندما تجسدت الرموز التاريخية الدينية في شخصيات شعبية في الحارة، بشكل مختلف.
استغل رءوف الفرصة ليسأل عن زعماء الوطن، وكأنها محاولة محفوظية لمحاكمة هؤلاء الزعماء، ليكتشف رءوف أنهم نجوا من حكم الإعدام لكنهم لم يحصلوا على البراءة، وباتوا مثله مرشدين روحيين: عمر مكرم يصبح مرشدا للكاتب أنيس منصور، وعرابي مرشدا للدكتور لويس عوض، ومصطفى كامل مرشدا للوزير والكاتب فتحي رضوان، النحاس مرشدا للرئيس السادات، وجمال عبد الناصر مرشدا للقذافي.
ورغم ابتعاد "محفوظ" عن تحقيق حيازة البراءة لهم، فإن النظر للشخصيات الحية يؤكد نجاح المرشدين الروحيين في إلهامهم، فكلهم كتاب ولهم مواقفهم الإيجابية والفعلية في الحياة، حتى شخصية السادات فإن النحاس لعب معها دورا كبيرا لإفساح المجال لعودة الحياة للأحزاب السياسية، لكنه لم يستمر طويلا مع السادات فقد صعدت روحه للسماء الثانية فور نجاحه.
يكتشف رءوف أن سعد زغلول هو الوحيد الذي صعد للسماء الثانية بعد حصوله على البراءة، وهذا بسبب انتصاره على ضعفه البشري، وانحياز "محفوظ" للأخير طبيعيًا إذا عرف القارئ أن محفوظ من أشد المعجبين بشخصية زعيم ثورة 1919 عن بقية زعماء الوطن.
بعد التدريب، يعرف رءوف أنه سيصبح مرشدا لقاتله عانوس، حيث بات مطالبًا بتعديل سلوكياته عن طريق الأحلام والإيحاء؛ ليتمكن من الصعود للسماء الثانية ومتابعة طريق الترقي للفردوس، وأمامه المرشدين الآخرين يكتسب منهم الخبرات.
يلفت "محفوظ" خلال العمل لدور الاستحواذ على السلطة والتأثر بها ثم فقدها، فهو يطرح سؤلا: ماذا لو تحولت الشخصية السلطوية هذه لمستشار فقط؟ عندما تفقد الشخصية مركزها وسلطتها تشعر بمعاناة الآخرين، وهو ما يلاحظه رءوف عندما يجد أخناتون يشتكي لـ"آبو" قائلا: كلما قلت له يمينك أخذ يساره! وهو ما ينبئ أن الفرعون المصري تمكن من الحصول على دور المرشد الروحي، وأثناء العمل يفشل في توجيه الشخصية المكلف بها، ويفسر "آبو" هذا الأمر بتعود أخناتون على إصدار الأوامر وأنه لم يعتد المناقشة والإقناع، وفي محاولة من "آبو" لاستنهاض همة الفرعون يضطر لتعنيفه قائلا: ألا ترغب في الصعود؟ وكأنه يحثه على بذل مزيد من الجهد إلى جانب التحلي بصفات أخرى غير القديمة التي تعود عليها.
تسيطر حالة من الأنانية على رءوف، لذا يسعى لدفع عانوس للاعتراف بقتله، بينما المطلوب منه غير ذلك، المطلوب منه أن يحرض عانوس على أبيه المعلم قدري ليتم الخلاص من شر فتوة الحارة القاسي، ولحدث مفاجئ يُقتل عانوس ويفشل رءوف في التطهير فيتم الحكم عليهما معًا بالإعدام والنزول للأرض مجددا.. ثم تتعقد الأحداث ويتمادى أديب نوبل في خيالاته ورسائله المتعلقة بعلاقة البشر بالخير والشر ورغبتهم في التطهير من عدمه.
استغل محفوظ الفلسفات الهندية القديمة فاستعار منها تناسخ الأرواح، وطريقة محاكمة الأموات من الحضارة المصرية القديمة، ومن المعتقدات الشعبية تحضير الأرواح، ليشيد عالمًا خياليا وفنيًا شديد الدهشة والإبداع، ليتمكن من الحديث عن علاقة السلطة بالشعب، وتمكن الشر من الإنسان وصعوبة التخلص منه، والتزام الإنسان تجاه مجتمعه وأبناء حارته.