تحدثنا قى الحلقة السابقة عن عجائب العلاج بالموسيقى ما شرع فيه مؤخرا فريق من الأطباء الإنجليز بعلاج الربو بالموسيقى بديلا عن الكورتيزون والبخاخات، حيث وضع هؤلاء الأطباء ضمن برنامجهم العلاجى آلات موسيقية تعتمد على النفخ مثل المزمار والفلوت والترامبت والساكسافون، وبحسب رأى الكثير من المختصين فإن تلك الآلات تحسن وظائف الرئتين وتعلم المريض السيطرة على الحركات التنفسية، إضافة إلى أنها تساعد على فتح القصبات الهوائية المتشنجة.
وفى هذه الحلقات وقبل أن نتكلم عن جلسات العلاج بالموسيقى، أود أن أعود بكم قليلا إلى مصطلح مهم وقعت عيناى عليه وأنا أُعد تلك الحلقة للنشر، ورأيت أنه من الضرورى لنا جميعا أن نتذوق الموسيقى قبل أن نُعِالج أو نُعَالج بها، فمنذ ظهور كتاب الدكتور حسين فوزى عن التذوق الموسيقي، وقد أخذ الاهتمام به يتزايد لكن فقط في أوساط المثقفين، والغريب في الأمر آنذاك أن الاهتمام كان ينصب على الموسيقى الغربية، ربما لعدم وجود مراجع عن هذا المجال للموسيقى العربية.
تذوق الموسيقى حس يعبر عن الحرية في الاختيار، ويمثل القدرة على الفهم من خلال مهارة الاستماع الطبيعية، ولهذا يحتاج الإنسان لتذوق الموسيقى، انتشر الغناء في العصر الجاهلى بسبب كثرة الألحان في هذا العصر، وعلى الرغم من انتشار الغناء إلا أنه اقتصر على الأراجيز والانتظام على وتيرة واحدة في مساحة صوتية محدودة، واعتمد الغناء في العصر الجاهلى على القصائد العربية الموزونة المقفاة، وكان يعتمد المغنون على الأوزان الخفيفة وخاصة الرجز منها. وتطور الغناء والاستمتاع به بداية من العصر الأموى بعد زيادة الفتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر، ثم ازدهر الغناء في العصر العباسى الذى اعتبر ذهبيا للموسيقى العربية في الشرق والغرب متمثلا في الأندلس حيث وجدت الدولة الأموية وانتقل إليها زرياب، الذى أحدث ثورة موسيقية كبيرة، رققت قلوب أهل الأندلس وابتكر آلات جديدة وزاد أجزاء في بعضها.
في كتابه «تذوق الموسيقى العربية» يضع لنا الأستاذ محمود كامل تاريخ التذوق الموسيقى من خلال تطور الغناء العربي، ويضع أسماء أعلام أثروا وأثروا في هذا المجال، وقد يتساءل البعض ما علاقة ذلك بما تناولناه في الحلقات السابقة عن ماهية العلاج بالموسيقى؟ والإجابة ستكون بالطبع أننا من المفترض أن نكتب في الحلقات المقبلة عن جلسات العلاج بالموسيقى من خلال اللحن والإيقاع، فإذا لم يتذوق المعالج الموسيقى ويعرف كالطبيب تاريخ وتكوين سماعته الطبية فكيف سيكون مقتنعا أنه من خلالها سيعالج مرضاه.. لنبدأ إذًا بتسليط الضوء على الآلات الموسيقية العربية بإيجاز وهى تنحسر في ثلاثة أنواع:
١- آلات نقر أو آلات إيقاعية.
٢- آلات نفخ.
٣- آلات وترية.
وكما قيل في كتاب «تذوق الموسيقى العربية»: «تعتبر حنجرة الإنسان وفمه ويده وقدمه، أقدم آلات الطرب، فقد كان «المكاء» وهو صفير الفم، و«التصديه» وهو التصفيق بالأكف، هو أول ما عرفه الإنسان، ثم جاءت آلات النقر، وقد استخدمت لضبط ميزان الألحان ومنها الطبول، والدف، ثم جاءت آلات النفخ كالناي، والفلوت، وأخيرا ظهرت الآلات الوترية، والتى تُعرف عند العرب باسم المعازف ومن أشهرها العود، وقد دخل بلاد العرب في العصر الجاهلى مع نشيط الفارسى وكان يتكون من أربعة أوتار، وقد زاد عليها أبوالحسن على بن نافع الملقب بزرياب وترا خامسا، ثم جاء الكمان بأنواعه والقانون.
هذه الآلات التى استعرضناها دون تذوق الموسيقى كانت ستصبح بلا جدوى، وكما قلنا في الحلقة السابقة أن موتسارت هو العبقرية الموسيقية الأعظم في التاريخ، إلا أن لدينا هنا عباقرة وجب إعادة إحياء ذكراهم ووضع ما قاموا به نُصب أعين الأجيال الحالية والقادمة إذا أردنا أن تعود الموسيقى إلى بلاطها السلطانى، وأن نُعيدها كحياة وكدواء؟، من أقطابنا في الموسيقى:
الشيخ محمود صبح
ولد بحوش الشرقاوى بباب الخلق بالقاهرة عام ١٨٩٧، كان والده من كبار تجار الأخشاب، تعرض الطفل الصغير وهو في الرابعة من عمره لنكبة كبيرة، وهو أنه كُف بصره، وكأن الله أراد أن يضع كل إحساسه في ابنه ليتذوق الموسيقى فهوى الغناء، وبدأ يتردد على تكايا الأتراك ثم تعلم الموسيقى فأتقن العزف على العود والناى والقانون والكمان، من روائعه في فن الموشحات «أنعش الروح واشفى الوصايا» و«لاح بدر التم في رهط الملاح»، ومن أهم مواويله: «سلطان جمالك على أهل الغرام حاكم وحارس الخال فوق ورد الخديد حاكم»، توفى بالقاهرة في ٢٥ أبريل ١٩٤١.
زكريا أحمد
صاحب مدرسة عريقة في التلحين، ولد بالقاهرة في ٧ يناير ١٨٩٦ وبدأ حياته الفنية منشدا في بطانة مشاهير القراء أمثال الشيخ سيد موسى والشيخ حمودة الكبير والشيخ إسماعيل سكر، وأخيرًا الشيخ على محمود، في عام ١٩٢٢ اتجه إلى تلحين الأغانى الخفيفة المسماة بالطقاطيق غناها مشاهير المطربين والمطربات أمثال منيرة المهدية وعبداللطيف البنا ونعيمة المصرية، ثم اتجه إلى المسرح ووضع لفرقة على الكسار ألحانا عدة منها أبوزعيزع والكرنفال وناظر الزراعة وغيرها، جاء تأريخ إبداعه مع سيدة الشرق أم كلثوم بما يقرب من ستين أغنية، وأبى العبقرى أن يرحل دون أن يترك لنا أعمالًا ببصمته وصوته فغنى «الفؤاد ليله نهاره» و«يا جريح الغرام» و«إنت فاهم تانى قلبى يرق لك».
داود حسنى
لا يعرفه الكثير من الأجيال برغم من أنه أول من وضع أساس الأوبرا العربية الكاملة، حيث قدم شمشون ودليلة وليلة كليوباترا، من رواد المسرح الغنائى العربي، ولد بالقاهرة في أغسطس ١٨٧٠ وتلقى علومه الأولى بمدرسة الفرير بالخرنفش، أحب الموسيقى وهو صغير وله رصيد من الأدوار منها «أسير العشق»، «سلمت روحك يا فؤادي» و«حبك يا سلام» و«الصبح لاح ونور»، توفى بالقاهرة ١٠ ديسمبر ١٩٣٧.
إبراهيم القبانى
ولد بحى الموسكى بمدينة القاهرة عام ١٨٥٢ ميلادية، تعلم الموشحات وأوزانها والعزف على العود سرا دون أن يعلم والده، ثم أخذ يغشى مجالس الغناء للاستماع إلى المشاهير أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم وعبده الحامولي، التحق بإحدى الوظائف الحكومية، ولكنه استقال وتفرغ للغناء، ترك القاهرة بسبب غضب والده لاتجاهه للغناء، وبدأ حياته الفنية بمدينة بنها، ثم انتقل للزقازيق وكون لحنًا خاصًا، ثم عاد للقاهرة عام ١٨٧٥ بعد وفاة والده، شق طريقه في القاهرة بين فحول المغنين وتبادل معهم غناء الأدوار، وتزوج بابنة الشيخ محمد عبدالرحيم، اهتم بتلحين الأدوار وغنى الكثير من المطربين والمطربات أدواره أمثال زكى مراد ومنيرة المهدية ويوسف المنيلاوي، طرق أنغامًا ومقامات لم يستخدمها أحد مثل المستعار والبسنديدة والسازكار والأوج والطاهر والسنبلة نهاوند، ومن أشهر أدواره الفؤاد حبك «مقام هزام» من قبل ما أهوى الجمال «مقام بياتي» ياقمر دارى العيون «مقام نو أثر» الفؤاد مخلوق لحبك «مقام سازكار»، اعتزل القبانى الغناء في الـ٦٥ من عمره عام ١٩١٧، واكتفى بإعطاء الدروس في العزف على العود لهواة الفن من أبناء الذوات، وعندما أنشئت أول نقابة موسيقية عام ١٩٢٠ كان القبانى رئيسًا لها، توفى بالقاهرة في ١٧ أكتوبر١٩٢٧.
محمد القصبجى ولد بالقاهرة عام ١٨٩٢ وتلقى علومه الابتدائية بمدرسة عثمان باشا ماهر وحفظ القرآن وهو صغير، التحق بالأزهر حيث قضى به عامين درس خلالهما أصول الفقه وعلم التوحيد والمنطق، ورث الموسيقى عن والده المرحوم الشيخ على القصبجى الذى كان منشدًا وقارئًا وعوادًا وملحنًا معروفًا، أتم تعليمه بمدرسة المعلمين وحصل على الدبلوم عام ١٩١٤ وعُين مدرسًا بمدرسة بولاق الابتدائية، ولكن لم يستمر في مهنة التدريس أكثر من عامين ثم استقال لكى يتفرغ للفن الذى وهب له كل حياته، انضم عام ١٩١٩ إلى تخت محمد العقاد الكبير الذى كان يغنى عليه مشاهير المطربين أمثال سيد الصفطى وأبو العلا محمد ومحمد السبع، لحن لمنيرة المهدية عام ١٩٢٠ بعض الطقاطيق التى ذاعت وانتشرت منها: «بعد العشا - شال الحمام - مين زيى إن لف الكون»، وفى عام ١٩٢٣ اتجه إلى المسرح الغنائى فلحن لفرقة السيدة منيرة المهدية بضع روايات منها: «المظلومة - حرم المفتش - كيد النسا - حياة النفوس»، كما لحن لفرقة نجيب الريحانى رواية نجمة الصبح، تعرف على السيدة أم كلثوم عام ١٩٢٤ ولحن لها أكثر من مائة أغنية وكانت أول قصيدة «إن حالى في هواها عجب» وتعتبر لونا جديدا من القصائد الغنائية، وفى عام ١٩٢٧ لحن مونولوج «إن كنت أسامح» فكان بمثابة نقطة تحول في عالم الغناء، وقد بلغ عدد الأغانى التى لحنها لمختلف المطربين والمطربات في الإذاعة والسينما أكثر من ١١٠٠ أغنية، وآخر ألحانه للسيدة أم كلثوم «رق الحبيب» ويعتبر فتحًا جديدًا في مجالات التعبير الغنائي، منح وسام الفنون والآداب عام ١٩٦١.