شهدت الفترة ما بين 1910 إلى 1930 لجوء عدد كبير من الفنانين خاصة المطربين إلى حيل فنية لتمرير كلمات أغانيهم في ظل تشديد الرقابة وإحكام الاحتلال قبضته على البلاد، ويعتقد البعض بوجود تناقض كبير في الفن، والغريب أن هذا التناقض والتفاوت كان لنفس الفنانين، فتجد الفنان يتغنى اليوم بكلمات وطنية عفيفة وغدا يتغنى هو ذاته بأغنيات كلها ابتذال وإيحاءات خارجة، فكان من المدهش أن تجد صاحب النشيد الوطنى بلادى بلادى هو ذاته الذى كتب أهو ده اللى صار، والسبب في ذلك هو محاولات الاحتلال الإنجليزي للتضييق على الشعب بكامل طوائفه، لتنتج عن ذلك حقبة فنية حملت كل أنواع التناقض الفكري.
أغانى زمن الاحتلال
نعيمة المصرية الأكثر من عدد الأغانى المبتذلة، وعبداللطيف البنا ترك الإنشاد الدينى ليغنى " ارخى الستارة اللى في ريحنا ".. أم كلثوم غنت " الخلاعة والدلاعة مذهبى ".
" في الفترة دى كان كل الناس متكهربة " هكذا عبر الفنان عبداللطيف البنا أحد أهم وأشهر مطربى تلك الحقبة عن الفن في ذلك الوقت بالتحديد حين سألته إحدى المذيعات في لقاء تليفزيونى أجراه بعد اعتزاله بنحو ٣٠ عاما عن سبب الابتذال الفنى في تلك الأثناء.
وبحسب ما ذكره عبداللطيف البنا فإن الاحتلال الإنجليزي وقتها كان يضيق على الفنان بشكل غير مسبوق، وكانت هناك محاولات لقتل أى إبداع أو أى أعمال تحث على النهضة، مما اضطره هو وجيله التوجه لهذا النوع من الفن، والذى كان سائدا وقتها رغم وجود بعض المحاولات لتغيير الواقع.
امتازت هذه الفترة الغنائية وبالتحديد ما بين عامى ١٩١٠ - ١٩٣٠ بالغزل الصريح والإيحاءات الواضحة، أسماء كبيرة قد تتعجب حين تعرف أنها كانت وراء كتابة وتلحين تلك الطقاطيق بما فيها من ابتذال، فكما لحن سيد درويش أهو ده اللى صار لحن أيضا " يا حلاوة أم إسماعيل في وسط عيالها.. زى النجفة عم بتلعلط في جمالها " والتى غنتها الفنانة حياة صبري.
لم يكن سيد درويش وحده من قام بالعمل في مثل هذا النوع من الفن، ولكن كان بصحبته العديد من الأسماء الكبيرة في التلحين على رأسهم زكريا أحمد وأحمد صدقى ومحمد على وداود حسنى وزكى مراد وغيرهم، أما في الكتابة فكان بديع خيرى أشهرهم وبيرم التونسى والشيخ يونس القاضي.
نعيمة المصرية ملكة الأسطوانات
رغم أن لنعيمة المصرية باعا في مقاومة الاحتلال الإنجليزي بالغناء إلا أنها صاحبة العدد الأكبر من الأغانى المبتذلة شاركت فيها مع بديع خيرى وسيد درويش، وكان أشهرها " خد البزه واسكت خد البزه ونام"، في إشارة لطفلها الصغير الباكى والتى تحاول أن تراوده وتجعله ينام، والبعض أرجع أنها إيحاءات على الدولة المصرية.
ولدت الست نعيمة المصرية كما كانت تلقب في حى المغربلين عام ١٨٩٤ وكان اسمها الحقيقى زينب محمد إدريس، واشتهرت في عالم الغناء في أوائل العشرينيات، وكان لها مسرحها الخاص " الهامبرا ".
تزوجت نعيمة وهى صغيرة وعاشت مع زوجها في بيت أسرتها، لكن حبها للغناء والفن جعلاها تتمرد على هذه الحياة، وسافرت إلى حلب لتقضى ثلاث سنوات في سوريا تعلمت فيها من ملحنى حلب وتبنتها الفنانة " رحلو جرادة "، وساعدتها في تلك السنوات إلى أن عادت للقاهرة عام ١٩١٤ ليتبنى موهبتها الملحن المشهور سيد درويش، ويعلمها غناء القصيدة والموال، حيث قدمت أول أسطوانة لها من ألحانه، كما غنت معه أكثر من أغنية.
" ملكة الإسطوانات ".. هكذا لقبت نعيمة المصرية في تلك الفترة حيث سجلت أكثر من ١٥٠ إسطوانة لأكبر ثلاث شركات وقتها وهى " ميشيان وبوليفون وبيضافون " ولحن لها العديد من الملحنين أشهرهم محمد القصبجي، وداود حسني، وزكريا أحمد، والذى لحن لها عددا من أهم أغانيها زى «البوسطجي»، «تعالى يا شاطر».
اشتهرت نعيمة بتقديمها العدد الأكبر من الأغانى مثل " هات الازازة واقعد لاعبنى.. دى المزة طازة والحال عاجبنى"، تأليف الشيخ يونس القاضى، وبعد أكثر من ٢٦ عاما في الفن اعتزلت نعيمة بسبب رفض عائلة خطيب ابنتها زواجه من فتاة تمتهن أمها الفن ففضلت أن تبتعد رضاء لابنتها.
وتوفيت نعيمة عام ١٩٧٦ عن عمر ناهز ٨٢ عاما ورغم معاصرتها زمن التليفزيون إلا أنها لم تظهر في أى تسجيل متلفز ولم يوثق حياتها أحد، ولا ندرى هل السبب في تجاهلها كان من قبل مسئولى التليفزيون أم كان ذلك رغبة منها في الاستمرار في الابتعاد وعدم الظهور.
عبد اللطيف البنا
ولد الفنان عبداللطيف البنا في قرية بمحافظة البحيرة عام ١٨٨٤ ويعد من رواد القرن التاسع عشر ورواد عصر النهضة آنذاك، وشهرته عبداللطيف أفندى البنا، كما لقب بأمير المطربين وكروان مصر.
كان للبنا صوت حاد أميل للأصوات الأنثوية لدرجة تجعل الكثير من المستمعين الذين لا يعرفون هويته الحقيقية يكونون دوما على يقين أن صاحب الصوت هو أنثى، وهو ما ساعده كثيرا في أن ينافس مطربات جيله، وذكر البنا في أحد اللقاءات أن صوته الأنثوى كان سببا في إسناد إليه العديد من الأغانى التى كتبت بلهجة أنثوية، وأضاف في حوار له أن هذا كان هو السائد لدى الشعب، وأن شركات إنتاج الأسطوانات تربحت الكثير من ورائه.
وكما فعل الكثير من أبناء جيله كان البنا في الأساس منشدا دينيا، ولكن سرعان ما اعتزل هذا اللون وخلع جبته وقفطانه وبدأ في الاتجاه إلى غناء الطقاطيق، وانشغل في البداية بإحياء الأفراح والحفلات الخاصة إلى جانب غنائه بين الفصول المسرحية، ومن ثم تفرغ بشكل كامل إلى الغناء الفردى وركز جهوده في التسجيلات الصوتية والابتعاد عن المسرح الغنائى والأغنيات الجماعية.
بالتعاون مع سيد درويش ويونس القاضى وزكريا أحمد سجل البنا العديد من الطقاطيق" الخليعة " والتى انتشرت كما النار في الهشيم لتصبح على لسان كل مصرى وفى كل شارع وعلى كل مقهى، حيث كان من أشهرها إيه رأيك في خفافتي، وكان البنا يدافع عن نفسه طوال الوقت، ويعلل ذلك الابتذال أنها كانت رغبة من شركة التسجيلات في إرضاء المستمع والسيطرة على السوق.
وبحسب بعض ما هو منشور على شبكة الإنترنت فقد وصل أجر البنا إلى ٣٠٠ جنيه مصرى عن الحفلة الواحدة- لم يتسن لنا التأكد من صحة المعلومة -.
قرر البنا الاعتزال عندما تلقى خبر وفاة شقيقه الأكبر يوسف عام ١٩٤٠ ليترك القاهرة نهائيا والعودة إلى قريته لرعاية شئون أسرة أخيه، ولم يظهر البنا إلا في عام ١٩٦٣ عقب دعوة من الإعلامية أمانى ناشد لاستضافته في برنامج سهرة مع فنان في التليفزيون المصري. كانت سهرة ناجحة لكنه اختلف معهم عندما صرفوا له أربعة جنيهات فقط نظير الاشتراك في الحلقة، وعاملوه كمطرب ناشئ، بعد استماع المسئولين إلى شريط الحلقة رفعوا أجره إلى ٤٥ جنيهًا، خصوصًا بعد غنائه مجموعة من الطقاطيق والأدوار النادرة بصوت عذب.
ونجد عبدالحى أفندى يغنى على لسان الأنثى ويقول "وإن كنت خايف من جوزى حشاش وواكل داتورة وإن كنت خايف من البواب أعمى ورجله مكسورة"، ولم يكن وحده عبدالحى من غنى على لسان الأنثى، فكان رائد هذه الطريقة كروان مصر وبلبل الشرق عبداللطيف البنا، والذى كان يصنف من العوالم، والعالمة هى العالمة بفنون الغناء والطرب، وكان يساعده في ذلك صوته النسائي، نتذكر مثلا طقطوقة "إيه رأيك في خفافتي"، وطقطوقة "ارخى الستارة اللى في ريحنا"، وطقطوقة "ما تخافش عليه أنا واحده سجوريا".
أم كلثوم..
رغم أن أم كلثوم جاءت في الفترة الأخيرة من تلك الحقبة إلا أن لها قصة لا يعرفها الكثير من الجيل الحالي، فقد يصدم البعض حين يعلم أن سيدة الغناء العربى غنت في وقت من الأوقات طقطوقة تقول مطلعها " الخلاعة والدلاعة مذهبى من زمان " كانت من ألحان الدكتور صبرى النجريدي، وكلمات يونس القاضي، مما أثار ضجة كبيرة وقتها حول أم كلثوم ولامها الجمهور على هذا الإسفاف، فاضطرت حينها إلى جمع الأسطوانات من الأسواق، بعد أن دفعت تعويضا لشركة إنتاج الأسطوانة، وهو ما كبدها خسائر كبرى.
ولكنها عادت وغنت نفس الأغنية من جديد، بعد أن أجرى أحمد رامى تعديلا على الكلمات، فأصبح مطلعها " الخفافة واللطافة مذهبى من زمان ".
مبدعون يتحايلون على الرقابة والقيود
رغم ما تميزت به هذه الفترة في تاريخ الفن من « الخلاعة والدلاعة »، إلا أنه وعلى الوجه الآخر كان النقيض تماما نفس الفنانين الذين تغنوا بكل أنواع المجون إلا أنهم حاولوا بكل الطرق أن يقفوا في وجه الاحتلال الإنجليزي مدافعين عن بلادهم واستقلالها.
لعل أشهر تلك الأغنيات التى ما زالت في الصدارة إلى يومنا هذا رغم مرور أكثر من قرن على غنائها هى " أهو ده اللى صار " - تلحين سيد درويش وغناء عدد من الفنانين كان أولهم " عبد اللطيف البنا " - هو صاحب الصوت الأول التى صدح بها، كما اختلف المؤرخون بين فريق وهو الأكبر أيد أن تعود كلماتها لبديع خيرى وآخرين رجحوا أن كلماتها ليونس القاضي.
تعود قصة الأغنية وبحسب ما ترويه القصص الشعبية أنه في يوم من الأيام تم القبض على يونس القاضى ذات مرة حين رأوا الجماهير تردد أغانى مسرحياته في المظاهرات، وكما يروى في أحاديثه الصحفية أن وكيل الداخلية آنذاك ويدعى نجيب باشا قال له بعد أن أمسك الجبة والقفطان الذى يرتديه القاضي: " بدل ماتقول الكلام الفارغ ده دور إزاى تصنع جبة في بلدك الأول " ويعلق القاضى على هذا الحادث قائلا: " هذا الكلام ظل في رأسى إلى أن بدأت أنادى في الروايات والمسرحيات التى أكتبها بإنشاء المصانع ومنها أغنية أهو ده اللى صار.. ما لكش حق تلوم على " ليكمل على الفور طقطوقته الشهيرة ليؤديها عبداللطيف البنا ويلحنها سيد درويش ويتغنى بها الشعب بالكامل لتصبح واحدة من تلك الأغنيات التى أرقت الاحتلال آنذاك.
وكان لافتا للنظر أن كلمات النسخة الأولى من الطقطوقة كانت تشير إلى الزعيم سعد زغلول في المقطع الذى يقول " مصر يا أم العجايب.. سعدك أصيل والخصم عايب "، لتجرى التعديلات عليها فيما بعد في النسخ الحديثة والتى كان من أشهرها بصوت فيروز حيث بدلت كلمة " سعدك أصيل " بـ " شعبك أصيل ".
أما لهذه الأغنية كانت قصة أكبر بكثير من الأولى حيث في ذاك التوقيت كان ممنوعا تماما أن يتغنى أى شخص باسم سعد زغلول فمجرد ذكر اسمه كان يعتبر تهمة تستوجب السجن والجلد.
لم يتوقف إبداع فنانى العصر على هذا القرار وقرروا التحايل عليه فقام سيد درويش والفنانة نعيمة المصرية بتلحين أغنية أطلقوا عليها " بلح زغلول " تقول في مطلعها " يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح " في إشارة إلى سعد زغلول والذى قاد ثورة ١٩١٩ آنذاك.
وتعود القصة بالتفصيل إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث تزعم سعد زغلول آنذاك مطالب المعارضة السياسية بإلغاء الحماية الإنجليزية على مصر، لينتشر وقتها وبعد ثورة ١٩١٩ اسم سعد زغلول في كل شوارع مصر ليصبح هتافا رسميا للحرية مما أزعج سلطات الاحتلال الإنجليزي لدرجة وصلت إلى أن أصدر القائد العام البريطانى قرارا عسكريا بالحبس لمدة ٦ أشهر مع الأشغال الشاقة والجلد ٢٠ جلدة لكل من يذكر اسم " سعد زغلول ".
تحايل بديع خيرى على هذا القرار وبدأ في عمل طقطوقته الشهيرة مع الاعتماد على اللعب بالألفاظ فبدل من أن يكتب " يا سعد زغلول " أبدلها بـ " يا بلح زغلول " لتبدأ الفنانة نعيمة المصرية بالتغنى بأبيات كلها تحمل إسقاطات سياسية على الإنجليز وتمجد في سعد زغلول حيث تقول في أحد الأبيات " يا زرع بلدى عليك يا وعدى ويا بخت سعدى "، لتلقى هذه الأغنية صدى واسعا وسط المصريين.
قد يكون الاسم غريبا، ولكن كان هذا اسما لإحدى الأغنيات الشهيرة التى غنتها سلطانة الطرب منيرة المهدية عام ١٩٢٢ حيث تم اكتشاف وقتها مقبرة توت عنخ آمون، تلك المقبرة التى تعد من أكبر اكتشافات القرن الماضى حيث وجدت كما هى لا ينقصها شيء مما جعل اكتشافها حدثا كبيرا تهافت عليه العالم بأسره.
اندثار فن الطقطوقة على يد أكبر مبدعيه
رغم استمرار زمن الطقاطيق المبتذلة فترة من الزمن إلا أن لكل شيء نهاية، وهو ما حدث لتلك الحقبة وفنانيها لتبدأ حقبة جديدة في الغناء المصرى أرغمت سابقيها بالاعتزال والابتعاد.
وعلى خلاف الست نعيمة المصرية والتى اعتزلت في أوج شهرتها وبمحض إرادتها، اضطر باقى فنانى جيلها للابتعاد عن الأضواء في بدايات ظهور السينما الغنائية عام ١٩٣٢ حيث بدأ الجمهور المصرى بالانسحاب تدريجيا من عالم الإسطوانات إلى الأفلام الغنائية ودور العرض. كما شجعت الإذاعة اللاسلكية المصرية بدءا من عام ١٩٣٤ العديد من الأصوات الجديدة كى تأخذ فرصتها أمام الميكروفون، وبمرور الوقت أصبحت الحياة الفنية المتعلقة بالتسجيلات التجارية وإحياء الحفلات الخاصة والأفراح أقل بريقا.
لم يكن هذا الموقف وحسب بل كان أحد أشهر كتاب هذا الفن المبتذل يدا كبيرة في إنهاء تلك الحقبة بل وتبرأ من كل ما كتب وهو يونس القاضي.
تعود القصة لعام ١٩٢٨ حين تولى الشيخ يونس القاضى منصبه رقيبا على المصنفات الفنية ليصدر قراره بعدم إعطاء أى تصاريح لتلك الطقاطيق ومنع إذاعة ذلك الفن المبتذل رغم أنه كان أحد كتابه الكبار.
وفى عام ١٩٢٩ تجديدا في شهر سبتمبر وعلى صفحات مجلة الصباح خرج القاضى آنذاك ليعترف بكل شجاعة أنه قد أخطأ وفق حين سلك هذا الطريق المبتذل وهاجم نفسه.
اختف ذلك النوع من الموسيقى تدريجيا وبصورة سريعة لتبدأ في نهاية الثلاثينيات أم كلثوم، وقد كانت حديثة عهد في الغناء بتغير جلدها مع الملحن محمد القصبجى وهو ما سبقها في ذلك الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب لتبدأ حقبة فنية جديدة في مصر بعد أن مات داود حسنى وإبراهيم القبانى وأبوالعلا محمد، واختفى أغلب مطربى تلك الحقبة، وعاد عبداللطيف البنا إلى قريته، وسافر أمين حسنين إلى تونس، واكتفى محمود صبح ودرويش الحريرى بصب اللعنات على ذبذبات إذاعات محلية قبل أن تقفل هذه الأخيرة بدورها.