ملائكة صغار وأطفال في عمر الزهور تعانق ابتساماتهم البيضاء غبار الجير، يمتزج به عرقهم وقطرات دموعهم وهم ينحتون بأياديهم الصغيرة في الصخر، حتى إذا ما غلبهم التعب ناموا في حضن الجبل لعله يكون أقل قسوة مما حولهم من قلوب.. أطفال تنحنى ظهورهم في سبيل لقمة العيش، صغارا في السن كبارا في الهم والشقاء.. يتعرضون للبرودة الشديدة في الشتاء ولسخونة الشمس الحارقة في الصيف، أطفال المحاجر مئات من الموءودة براءاتهم خلف الجبل.. اصطدمو بالواقع المرير بسبب الفقر والجهل والبطالة.. دفعتهم الأوضاع المعيشية السيئة إلى ما هو أسوأ: «مواد كيماوية وصخور وأتربة وغبار جيرى، وأمراض خطيرة ومزمنة».
في ساعة مبكرة من الصباح تجد عشرات الأطفال يفترشون الأرض داخل صحراء المحاجر، تدفعهم حاجتهم للمال من أجل الإنفاق على أسرهم التى تقع تحت خط الفقر، فيستغلهم أصحاب المحاجر للعمل دون مظلة تأمين الصحى واجتماعي ورعاية، ودون الالتزام بدفع تعويضات لمن يصابون بحالات العجز، هذا بخلاف عدم توافر وسائل مواصلات آمنة وعدم وجود وسائل إنقاذ سريع أو إسعافات أولية، مع انتشار أسلاك الكهرباء المكشوفة من المعدات، مع أجور متدنية لا تتناسب مع الجهد المبذول والإصابة بأمراض التحجر الرئوى وحساسية الجلد والتهاب العين وضعف السمع والحمى بسبب ضربات الشمس والعاهات المستديمة..
«البوابة نيوز» تزامنا مع اليوم العالمى لمكافحة عمل الأطفال، والذى دشنته منظمة العمل الدولية منذ عام ٢٠٠٢ ليكون ١٢ يونيو من كل عام لتركيز الاهتمام على ظاهرة انتشار عمل الأطفال في العالم وتحديد حد أدنى لسن التشغيل تعرض جانبا وحكايات لأطفال المحاجر لتُسلط الضوء على مشكلة تحتاج إجراء فوري.
حسين ومصطفى وإبراهيم، ثلاثة أصدقاء في عمر الزهور، يعملون بمنطقة المحاجر بمحافظة المنيا، دفعتهم ظروفهم الاقتصادية الصعبة إلى التخلى عن حياتهم الطبيعية لمن هم في مثل عمرهم، للعمل في محاجر الطوب الجيري، غير مهتمين بصعوبة المهنة ومتطلباتها التى تتخطى قدرات جسدهم الضئيل، فهدفهم فقط توفير لقمة عيش لأسرهم، الثلاثة الصغار تسربوا من المدرسة، فمواعيد الدراسة كانت تتزامن مع وقت العمل، قبل أذان الفجر، يستيقظ الأصدقاء الثلاثة استعدادًا ليوم جديد من العمل، يستقلون سيارة ربع نقل متهالكة من قريتهم لتصل بهم إلى المحجر ومجرد وصولهم إلى مقر عملهم تختفى وجوههم تحت قناع من الغبار الأبيض، بينما تستعد أياديهم الصغيرة المجهدة لبدء يوم جديد في عملهم الشاق، «حمالة» يحملون الحجارة ويلقونها في الكسارة لتتحول إلى «بودرة» يتم استخدامها في أعمال البناء وينحتون الدرج بالفأس الثقيلة وهكذا يقضون الساعات في تعب متواصل حتى غروب الشمس.
حسين: بحس بوجع في صدرى
لم يكن سهلا على الطفل «حسين حسن» أن يعمل في بيئة المحاجر إلا أن أسرته دفعته للعمل في المحاجر بسبب ظروف الفقر والمرض، يقول حسين: «بشتغل من ٦ الصبح لحد المغرب، بشتغل عشان أجيب فلوس لأبويا وأمى، وبحس بوجع في صدرى ومش عاوز أسيب الشغل عشان حالتنا صعبة».
مصطفى: أهلى فقرا وبساعدهم
ويصف الطفل مصطفى طبيعة عمل الأطفال بالمحاجر قائلا إنهم يقومون بنحت الدرج بالفأس وتقليب الطوب «البلوك»، ورفعه على أكتافهم، لتحميله على سيارات النقل لتسويقه، وبعدها يتم هـزّ البودرة الناتجة عن تقطيع البلوك، وتعبئتها في «شكاير»، تمهيدًا لبيعها، بشتغل طول اليوم وأهلى فقرا وبساعدهم».
عبدالرحمن: يوميتى ٢٠ جنيها
عبدالرحمن حُرم هذا الطفل وأشقاؤه الستة من أبسط حقوقهم في الحياة، تربى على تحمل المسئولية وحمل الهموم التى، تعلم أن الحياة لا تمنح الفرصة ولا السعادة لمثل من هم في ظروفه، بكى كثيرا ولم يصادفه الضحك، دائما يشكو من شعوره بالوجع، حيث يقوم بتقطيع الطوب وتقليبه ورفع البلوك على أكتافه لتحميل السيارات، كما يقوم بنحت درج السلم باستخدام الفأس.
يقول عبدالرحمن: «الجير بيدخل في صدرى وبيخلينى أكح ومش قادر أتنفس، باخد يومية عشرين أو تلاتين جنيه، اتصابت كذا مرة لكن برجع الشغل تاني».
في أرض المحاجر الكثير غير حسين ومصطفى وعبدالرحمن، تتراوح أعمارهم بين الـ٨ إلى ١٨ عاما، منهم من ورث المهنة عن والده الذى فقد حياته إثر إصابة عمل، ومنهم من ساقته الأحوال الاقتصادية إلى هذا العمل، يتعرضون للإصابة ببتر الأعضاء أو الإصابة بعاهة مستديمة إثر استغلالهم في أعمال التفجير لاستخراج المواد الخام من باطن الجبل، أو قد يتعرضون للتفحم أو الموت لملامسة الأسلاك المكشوفة المنتشرة في المحجر، وفى أهون الظروف قد يتعرضون للالتهاب الرئوى والتهابات العيون والأمراض الجلدية جراء استنشاق كميات كبيرة من غبار الجير الأبيض أثناء تقطيع الكتل الحجرية ينتظرون كل يوم الموت في حضن الجبل.