سخر المفكر الراحل فرج فودة من تصريح أحد قيادات الجماعات الإسلامية المتطرفة الذي زار السودان في أعقاب وصول الإسلاميين لمراكز السلطة، حيث جعل الحل الوحيد لخروج السودان من فقره الشديد ومن مشكلاته الاقتصادية الصعبة هو العودة إلى الشريعة الإسلامية، وأن كل هذه المشكلات مرتبطة قطعًا بابتعاده عن الله وعن شرعه في فترة سابقة، وأن الأمل في تطبيق الشريعة يمكن أن يبدل فقرهم غنى وعسرهم يسرا.
عدَّ "فودة" هذا الكلام نوعًا من اللعب بعواطف الناس والمساهمة في تعزيز جهلهم وزيادة فقرهم، حيث انتقد تلك الطريقة التي يتعامل بها الإسلاميون من حيث إيهام الناس أن العدل والخير والرخاء سوف يعم البلاد بمجرد تطبيق الشريعة، والآن بعد مرور عقود طويلة على آراء "فودة" فإن الحركات الإسلامية التي وصلت للسلطة في السودان قد ثار عليها الشعب وأسقطها، ولا يزال السودان يعيش الفقر والضنك والمشكلات الاقتصادية، فلم تحقق لهم تلك التيارات أي رخاء مما وعدتْ به.
ولفت "فودة" في كتابه "الإرهاب" إلى عدد من الملاحظات والأساليب التي تعتمد عليها تلك التيارات التي تعلب بعواطف الناس الدينية.
أولها: فكرة المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة، وهذا أمر لم يتحقق على مدى التاريخ الإنساني كله، وبالتالي على مدى تاريخ الخلافة الإسلامية كله، حتى في أزهى عصوره وأن من يصورون للشباب الغض أن قيام حكم ديني سوف يحول المجتمع كله إلى جنة في الأرض يسودها الحب والطمأنينة ويشعر فيها المواطن بالأمن ويتمتع فيها الحاكم بالأمان ويتخلص فيها الأفراد من سوء القصد وحقد النفوس ونوازع الشر إنما يصورون حلما لا علاقة له بالواقع ولا أساس له من وقائع التاريخ ولا سند له في طبائع البشر.
وثانيها: أنه يوجد فارق كبير بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثاني لا يعني الكفر بالأول أو الخروج عليه وأنك في الثاني سوف نجد كثيرا يقال أو يعترض عليه.
وثالثا: الاعتماد على التعامل مع التاريخ بمنطق التجزئة، الكثير منا الآن يهوى تجزئة الأمر عن قصد، ونهمل فارق القياس عن عمد حتى نتوصل إلى نتائج تتفق مع ما وقر في القلب بأكثر مما تتفق مع المنطق وحكم العقل، ومثال ذلك قصة نوم الخليفة عمر بن الخطاب تحت الشجرة آمنا، وفارق القياس، فدونك المقارنة بين واقع الحياة في الصدر الأول للإسلام وواقع الحياة اليوم.
يلفت فودة إلى تجاهل فارق القياس بين العصور، قائلا: "لا أحد يأخذ في الحسبان تغير أساليب العصر، وأنه يستحيل على الحاكم اليوم أن يسير في الأسواق رافعا الدره أو أن يعلو بها رؤوس معارضيه أو أن يتصنت على البيوت ليعلم أحوال المسلمين أو أن يؤرقه تعثر دابة في جنوب أسوان أو أن يمسح يده في نعله لأنه لا يملك منديلا، كما أن البعض يغفل تمامًا التعداد السكاني أيام الفاروق عمر بن الخطاب والتعداد السكاني الآن.
ويتابع فودة أن رابع الأمور الملاحظة على عمل تلك التيارات، أن أمور السياسية لا يجوز أن تؤخذ بما تؤخذ به الآن من تسطيح وتهوين للأمور وسوء مفرط في الاستدلال، فقد يجوز أن نأخذ ما يصيب الأفراد من خير على أنه ابتلاء وما يأتيهم من شر على انه اختبار، لكن إطلاق تلك الأحكام على أحوال الدول وشئون السياسية خطأ جسيم.
ويضرب فودة لذلك مثلا حين تشفى أحد الدعاة في مصرع رئيس سابق ذاكرًا الاغتيال انتقام إلهي ناسًيا اغتيال الخلفاء الراشدين، فماذا يقول فيه؟ وإذا كانت هزيمتنا في 67 غضبا إلهيا فما القول في نصر إسرائيل هل هو رضاء من الله في المقابل، وتدهور أحوالنا المعيشية في بلادنا سخطا من الله لترك شرعه الصحيح فما القول في ارتفاع مستوى المعيشة في دول الغرب.
خامسها: فصل الدين عن السياسية وأمور الحكم إنما يحقق صالح الدين وصالح السياسة معا على عكس ما يصور لنا أنصار عدم الفصل بينهما ويجدر بي هنا أن أرفض تجاهل الدين كأساس من أسس المجتمع، فالدين مطلوب لأنه أحد أسس تكوين الضمير في المجتمع.
وسادسها: استقراء التاريخ الإسلامي يؤكد على حقيقة أن أئمة الفقه الإسلامي كانوا أكثر من عانى من الحكم السياسي المتسربل بالدين وأبرزهم أبو حنيفة الذي رفض تولى القضاء فسجنه الخليفة المنصور.
يشار إلى أن تلك الانتقادات كانت منذ سنوات طويلة لكنهم بالفعل عندما وصلوا للحكم في مصر العام 2012 على يد الجماعة الأم جماعة الإخوان الإرهابية لم يكن لديهم أي تصورات عن الحكم والسياسية بينما اعتمدوا بشكل كبير على دول لديها ميول استعمارية قديمة كي تحرك لهم الأمور وتدير لهم شئون البلاد على الحقيقة.
وفي مقدمة كتابه "قبل السقوط" الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1985، قال "فودة": "لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أصحاب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقُصاد الحق لا طالبي السلطان".