لم نكن ندرك بأن الحصان الطائر سيشق طريقه نحو تلك الحقول، مثلما تفعل الريح.. طائر يشق الطريق في حقول الأدب والشعر، مثلما تفعل الريح أو أشد، عنفوان صارخ، ولكنه يحمل من الجمال في كلماته ما تنوء عنه الجبال، حتى إذا أطلق شعره في قصيدة " لاتصالح"، كأنها طلقة في جبين متوحش، بوجهه الذى عُجن بتربة الجنوب، وملامح رُسمت بطمى النيل، شهدت قرية القلعة بمحافظة قنا أعظم شعراء عصره، بل خط اسمه بين ملوك شعراء العرب، الراحل أمل دنقل، يحكى قصصا عن حياته، ويطلق لسانه يستعيد الذكريات، ويرسم بحديثه لوحة لفترة من الزمن شهدت انطلاق صاحب الشعر المقدس.. أمل دنقل، يقول في لقاء له جمعه بفاروق شوشة إن التواصل مع الرعب الداخلي، فالحياة قطار عزمى شبق، ووجودى فيه أشبه بسمكة على وشك الاختناق، بعدما تواجدت في نهر من الجليد.
ويسرد الحديث علاقة ما تربط بين قرية القلعة في صعيد مصر التى ولدت فيها، والسماء السابعة، ربما تكون هذه العلاقة تبادل حاضنات، فتواجدى في صعيد مصر لا ينقصنى شيء سوى تواجد صديقى عبدالرحيم الابنودي، فأرى أم الأبنودى بشعره هو مياه للتخصيب، ليس في أرض الصعيد فقط بل في أرواح الناس، عملت بطاحونة، ولكنى كنت أديرها بالوزن والقافية، ولديهما قوة لإدارة الطاحونة، ورغم ذلك كنت أعمل في العديد من الوظائف الحكومية فعملت بمحكمة قنا ثم بجمارك الإسكندرية والسويس، ورغم هذا أحب العمل بالطاحونة، لأننى أراها تعمل بالموسيقى، ومنذ أن ولدت وأنا أرى نفسى شهيدًا، وبعد نشأتى بين الهتافات تارة والبنادق والآلام والرماح، تيقنت أن الشهادة الحقيقية لا تُعنى أن المرء يصبح شهيدًا عندما يموت، هو أن تقدم شيئا للوطن فتظل في ذاكرته، وهنا تتغلب على فكرة الشهادة الفردية.
رحل أمل دنقل في الحادى والعشرين من مارس عام ١٩٨٣.