بعض البرامج ذات الطابع الرمضانى يقوم بوظيفة الطبيب الذى يشرّح جسد المجتمع ليقدم تشخيصًا دقيقًا لجانب من أمراضه المزمنة وفى القلب منها تردى الخطاب الدينى وتدنى المستوى الثقافى والمعرفى.
الحديث هنا ليس معنيًا ببرامج الرعب والمتاجرة بالخوف الإنسانى وإنما بالبرامج جادة المحتوى وإن كان هدفها المعلن التسلية والترفيه.
فيما تابعت أخص برنامج شيخ الحارة والجريئة للسنيمائية المبدعة إيناس الدغيدى وبرنامج كلام من ذهب للإعلامى القدير طارق علام.
صحيح أن غالبية ضيوف "شيخ الحارة والجريئة" من نجوم الفن والرياضة إلا أن خبرة المخرجة إيناس الدغيدى في استخدام العدسة السنيمائية لتصوير عمق المشهد والصورة برؤية شاملة لا تهمل التفاصيل والمفردات الشارحة لذلك العمق الذى تتحرك فيه الشخصيات وتدور بداخله الأحداث بدت واضحة في قدرتها على صياغة أسئلة لعبت دور مشرط الطبيب المشخص حيث كشفت إجابات أغلبها مدى تردى نوعية الخطاب الدينى الذى يؤثر في المجتمع.
حلقة الفنان سعد الصغير كانت نموذجًا صريحًا تفوقت فيها عدسة المخرجة إيناس الدغيدى على المذيعة واستخرجت إجابات تذكرنا بشخصية "السيد أحمد عبد الجواد" في ثلاثية نجيب محفوظ؛ الذى كان محافظًا ومتمسكًا بشدة بالتقاليد والمظاهر الدينية في بيته وأمام أبنائه، فيما يتخلى بسهولة عن كل تلك المظاهر وقيمه التقليدية عندما يذهب إلى الحانات والملاهى بين يدي الراقصات والنادلات.
بعبارات بسيطة قال الفنان سعد الصغير أن بعض ماله قد لا يكون حلالًا نتيجة للغناء في محال تقدم الخمور أو ما شابه، لكنه في نفس الوقت دخل في تجارة مع الله عبر أعمال خيرية؛ لست بصدد الاتفاق أو الاختلاف مع موقف الفنان الشعبى بتوصيف أجره من الغناء في محال تبيع الخمور بالحرام أو الحلال لاسيما وأنه أجر أو مال غير مُجَرم قانونًا وليس مشروطًا بتعاطيه الخمر، غير أن عباراته تلك متداولة بين فئات لابأس بها بين المصريين وأغلبنا سمعها في مواقف وسياقات مختلفة، ودعنى عزيزى القارئ أذكرك ببعض تلك السياقات؛ منها أن التاجر "الحاج فلان" يغالى في أسعار بضاعته "بس رجل طيب وبيعمل خير كتير"، أن المقاول "الشيخ العلانى" تسبب في انهيار أحد العقارات "بس الرجل بتاع ربنا وبيعمل موائد رحمن وبيدفع فلوس في السر للمحتاجين"، أن "المعلم فلان" بيتاجر في المخدرات "بس مشفتش حد زيه في رعاية اليتامى والأرامل وبناء بيوت الله"، وقس على ذلك الطبيب اللى كشف عيادته 1000 جنيه بس الزبيبة في وشه قد كده، وطبعًا حضرة الأستاذ الدكتور الطبيب لا يقدم للضرائب حقيقة ما يحصل عليه من أجر، والمدرس وسائق التاكسى وعامل المحارة... إلخ.
وهناك عبارة شهيرة "دفعت النهاردة فلوس للموظف وخلصت المصلحة" الرد "دى اسمها رشوة" يقولك خليةا على الله وكله ماشى كده.
في السياق ذاته تأتى الفتوى الشهيرة بأن دفع الرشوة ليس حرامًا إذا كان من أجل أخذ حق من موظف متعنت لتصبح اللعنة حصرية على المرتشى.
هذه مجرد أمثلة تعرفها وتعيشها عزيزى القارئ يوميًا وتمر عليك مرور الكرام تمامًا كما مر حوار الفنان سعد الصغير مع المخرجة المبدعة إيناس الدغيدى غير أن تسليطها بؤرة الضوء على هذا الجانب من الشخصية المصرية ينبغى أن يكون درس إنذار لرجال الدين والثقافة ودارسى علوم الاجتماع والنفس؛ ذلك أن هذا التناقض بين القيم والسلوك، بل هذه القدرة على حمل قيم متضاربة في وجدان واحد يعنى أننا أمام خطاب دينى مترد يحتاج إلى تحليل عميق لجذوره، فالمسألة كما تبدو لنا في ثلاثية نجيب محفوظ قديمة وليست جديدة على المجتمع المصرى، بمعنى آخر أن الخطاب الدينى الموروث والذى يتمسك به أهل الدين يحمل في طياته أصل الداء لأنه عجز عن بناء منظومة قيمية وأخلاقية متماسكة تخلو من التناقضات التى تدفع المؤمنين بها إلى الإيمان بقيم متضاربة والإتيان بسلوكيات يجب بعضها البعض.
المسألة لا تتعلق هنا بفقه قديم أو فتاوى تجاوزها الزمن، ولا حتى بحاجة إلى إنتاج فقه معاصر وإنما بمضمون خطاب ملئ بالتناقضات فيه الشيء وعكسه؛ المسألة يا سادة لا تتعلق بالخلاف بين متمسك بأحكام قديمة يريد تطبيقها على قضايا معاصرة، ومجدد يسعى لاستنباط أحكام جديدة وهذا ما يجعل مسألة تجديد الخطاب الدينى لا تقف عند رجال الدين، وإنما ينبغى أن تكون محل دراسة وبحث من العلماء والباحثين في علوم الاجتماع والأخلاق والجمال والفلسفة والنفس والسياسة وصولًا إلى المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين.
ليس بعيدًا عن هذه القضية ما تعكسه مرآة برنامج "كلام من ذهب" للإعلامى القدير طارق علام فرغم الطابع الترفيهى والخيرى للبرنامج إلا أنه ووببساطة يكشف للمجتمع مدى تدنى مستواه المعرفى والثقافى، بل وجهله بأبسط الأمور التى تحيط به.
سؤال طارق علام عن تاريخ اقتحام حصن بابليون وجاءت إجابات من عينة "في الثمانينات" وعندما كشف لأحدهم أن ذلك كان في أيام عمرو بن العاص جاءت الإجابة على هذا النحو "أيوة يعنى من زمان في الثمانينات".
هذه الحلقة كانت نموذجًا كاشفًا وفى رأيى أن المؤسسات الثقافية والإعلامية والجهات المختصة معنية بتحليل مضمون إجابات الناس في هذا البرنامج وغيره من البرامج المشابه وتقديم مقارنة لتلك الإجابات عبر العقود المختلفة لا سيما أن برنامج مثل كلام من ذهب ممتد منذ تسعينيات القرن الماضى وبحسب تعبير أحدهم من أيام عمرو بن العاص وإن شئت القول من أيام عمرو بن دياب".
ليس من المنطق أن نتوقع استقبال أى جمهور رسائل الوعى بينما هو تعوزه الثقافة والمعرفة وأدوات وآليات تمكينه الثقافى عبر وسائل يبتكرها المسئولون عن الثقافة والإعلام.