تتفرد مدينة القاهرة بسحر خاص، تجذب إليها القلوب قبل العيون، عجز المؤخرون والمستشرقون على وصفها، فكل من يأتى إليها يأبى الرحيل، وكأنها «النداهة» التى تشدو بصوتها العذب لتجذب إليها كل من تخطو قدمه عليها، فهى مزيج من العبقرية والجنون، أما لياليها فلها مذاق خاص، التجوال في شوارعها حتى مطلع الفجر، فهى المدينة التى لا تنام. وعلى مدى شهر رمضان المبارك سنروى حكاية تلك المدينة الساحرة، أم المدن، «القاهرة» سنتحدث عن مساجدها، وكنائسها ومبانيها، وحكايات أشخاص عاشوا فيها، وغزاه وأحباب سنروى حكايتها منذ نشأتها.
«عليها رياضٌ لم تحكها سحابوٌ، وأغصان دوج لم تغن حمائمه، وفوق حواشى كل ثوب موجهٍ، من الدر سمط لم يثقبه ناظمه»
استطاع الحكماء الفاطميون أن يخلدوا فترة حكمهم لمصر بما تركوه من أثار وتحف فنية برز من خلالها المبدع المصرى، في شتى أنواع الفنون، والتى تظهر جليًّا في الزخارف المنقوشة على العمائر والتحف المصنوعة بمنتهى الدقة والإبهار، وسوف تتناول الحلقات القادمة الفنون المختلفة التى ظهرت في القاهرة خلال العصر الفاطمى، وسنرى سويًّا كيف برع الفنان والصانع المصرى في تلك الفنون التى لم يستطع الزمن محوها على الرغم من أوقات الشدة التى مرَّت بها القاهرة «المحروسة».
زخارف نقوش تحف لا مثيل لها، انبهار بعظمة الفنان المصرى، تلك السعادة والشعور بالفخر والامتنان لما تركه هذا الفنان ليدل على عظمته وعظمته صنعته، فبمجرد أن يصل الزائرون إلى القاعة الفاطمية المتواجدة بدار الآثار العربية، والتى جُمعت في قاعاتها المختلفة شتى أنواع التحف المصنوعة من الأحجار والرخام والجص والخشب والسجاد والزجاج، ليدرك تمامًا أثر العصر الفاطمى في تاريخ الفنون الإسلامية في مصر، بل وفى العالم أجمع.
فقد أبدع الفنان المصرى في فن التصوير لاسيما في العصر الفاطمى والذى كان له ثمرات، فقد كان الحكام الفاطميون يولوا اهتمامًا بالغًا بالمصورين ورجال الفنون، وهو ما يتجلى من الفنون والنقوش التى كانت متواجدة بجامع القرافة، والذى بنى على نسق الجامع الأزهر، فقد كانت به نقوش سماوية اللون وحمراء وخضراء ورسوم ذات ألوان أخرى، كما كانت السقوف مزوقة كلها وكذلك الحنايا والعقود، والتى صنعت بيد «بنو المعلم» وهم مجموعة من النقاشين المصريين ومعهم نقاشون أصلهم من مدينة البصرة.
ويقول المقريزى في خطته الجزء الأول:"أن دار النعمان بالقرافة كان فيها صورة سيدنا يوسف في الجب، وهى من عمل المصور الكامى، وتمثل يوسف عاريا ولون الجب أسود يخيل معه الناظر أن جسم يوسف باب مفتوح فيه».
كما تجلت أعمال التصوير في الخيمة التى صنعت لليازورى والتى كانت زخارفها تمثل صور جميع الحيوانات المعروفة».
ويتابع:» وأن الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله بنى في بركة الحبش منظرا من الخشب المدهون، وصور له فيها شعراؤه، ثم طلب كل واحد منهم قظعة من الشعر في المدح، كتبت بجوار صورته، وجعل إلى جانب كل صورة رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار، طلب أن توضع على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارًا، وأن يدخل كل شاعر فيأخذ صرته بيده».
ولعل من أهم النقوش المرسومة على الجص، والتى وجدت على جدران الحمام الفاطمى، الذى عثر عليه دار الآثار العربية في عام ١٩٣٢ خلال أعمال التنقيب عن الآثار بجوار أبى السعود جنوب القاهرة، والتى تم نقل بقاياها إلى دار الآثار العربية، وهى ملونة بالأحمر والأسود وهى صورة رسم إنسان يحيط برأسه هالة، وعليه عمامة جميلة، وفى يده اليمنى كأس يحمله، وصورة أخرى رسم عليها طائران متقابلان تعلوهما فروع نباتية حمراء، وحولهما شريط أسود به نقط بيضاء، وصورة ثالثة لرأس شاب يلتفت إلى اليسار، وأخرى لسيدة تتدلى عصابة رأسها إلى الجهة اليمنى، وهذه الصور والنقوش تظهر تأثر الفنان المصرى بأساليب النقش في إيران والعراق...