الخميس 05 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

شفرة السيسي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقدر ما كان حديث الفريق أول عبد الفتاح السيسي خلال تفتيش حرب الفرقة 9 مدرعات بالمنطقة المركزية صادمًا للبعض، كان كاشفًا لمجموعة من الحقائق على نحو لا يحتمل التأويل وحاسمًا لجدل راوح أمنيات المصريين أشهرًا، وتردد كثيرًا على ألسنة المحللين والخبراء خاصة ذوي الخلفيات العسكرية.
فالرجل الذي ما لبث أن أضحى بمثابة المخلص، رغم الظروف الملتبسة، وعلامات الاستفهام التي أحاطت بطريقة توليته لحقيبة وزارة الدفاع؛ خرج على شعبه مؤكدًا بالقول الفصل أن لا خلاص من فساد حكم مرسي وعشيرته سوى صندوق الانتخابات.
ويبدو أنه قصد عن عمد أن تقتصر الدعوة لحضور تفتيش حرب الفرقة 9 مدرعات على رموز وممثلي القوى المدنية من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والفنانين؛ لتكون رسائله مباشرة لهم دون سواهم، خاصة وأنه شدد على مطالبتهم بضرورة البحث عن سبيل للتوافق السياسي مع جماعة الحكم الجديدة، وما يؤكد هذا العمد عدم تعليق أي من قوى الإسلام السياسي، سواء الإخوان أو أذنابهم على عدم دعوتهم ومعاملتهم بالمثل، بل إن عبد المنعم أبو الفتوح وحزبه مصر القوية، الذي يدعي وقوفه على يسار جماعة الحكم، لم ينتقد تجاهله من قبل المؤسسة العسكرية؛ ليتأكد للجميع أنه ليس إلا إخواني مستتر في عباءة المعارضة المزيفة.
رسالة السيسي جاءت لتكشف جانبًا من لغز علاقة أقدم جيش في التاريخ، عماد أقدم دولة مركزية، مع أول نظام سياسي يأتي منبت الصلة عن المؤسسة العسكرية وجنرالاتها.
بعض هذه الألغاز جاءت في صورة شائعات بشأن انتماء الرجل “,”عبد الفتاح السيسي“,”، لتنظيم الإخوان المسلمين، لا سيما وأنه جاء عقب واقعة مقتل سبعة عشر جنديًّا مصريًّا على الحدود برفح أطيح على إثرها بسلفه المشير حسين طنطاوي.
لكن طبيعة التجاذبات بين مؤسستي الرئاسة والجيش في المرحلة التالية كانت تؤشر إلى أنه قد جرى اتفاق بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري لتسليم السلطة للأولى، التي قامت بتعديل بعض بنود الاتفاق من طرف واحد، بعد اعتلاء مرسى عرش المحروسة، وهو الإطاحة بطنطاوي.
ويبدو أن الجماعة حاولت أن تمضي في تلاعبها ببنود الاتفاق؛ لم لا وقد تربت عناصرها على الكذب والمراوغة وخيانة العهد؟ شأنهم في ذلك شأن يهود خيبر وبني قينقاع، وقد بدا ذلك التلاعب عندما أطلقت شائعات إقالة الفريق السيسي من منصبة كوزير للدفاع والإنتاج الحربي والقائد العام للقوات المسلحة، وهي الشائعات التي جاء الرد عليها سريعًا وعنيفًا على لسان الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان، عندما قال أثناء زيارته لدبي إن مجرد التفكير في إقالة القائد العام “,”انتحار سياسي“,”.
ومع ذلك لم يرتدع مكتب الإرشاد الحاكم في أمر قصر الاتحادية، فكانت تعليماته بتسريب الجزء الخاص بانتهاكات المجلس العسكري في تقرير لجنة تقصي الحقائق إلى جريدة الشروق المصرية، ولما لم تؤتي هذه المحاولة أكلها، تم تسريب نفس الأوراق إلى صحيفة الجارديان البريطانية، لتأخذ حملة تشوية الجيش المصري بعدًا دعائيًّا أكبر وأوسع.
ولم يسترح الجيش لمحاولات الإخوان المتكررة بالنكوص على العهد، فجاء اجتماع المجلس العسكري مع الرئيس الإخواني محمد مرسي، ليظهر الأخير في المؤتمر الصحفي الشهير إلى جانب القائد العام كضابط صف ملتزم بأداء التحية طوال الوقت، وليس كقائد أعلى للقوات المسلحة، وقد ترجم هذا المشهد ما اعتبره كثيرون تعنيفًا وجه لمرسي أثناء الاجتماع، وإعادة لوضع النقاط على الحروف؛ للتأكيد على ضرورة الالتزام بتفاصيل ما ورد في بنود الصفقة الأولى المبرمة بين المجلس العسكري السابق وجماعة الإخوان المسلمين تحت وصاية أمريكية.
ولا يمكن هنا أن نغفل تصريحات سفيرة الولايات الأمريكية المتحدة آن باترسون، التي سبقت حديث السيسي بوقت قليل، وقد كانت أشبه بالتحذيرات عندما قالت إن نزول الجيش مره أخرى أمر مرفوض، بما لا يدع مجالاً للشك أن القائد العام للقوات المسلحة الحالي إنما ينفذ بنود اتفاق سابق، ولا يريد الخروج عليه، ويكفي قوله إن عودة الجيش تعني تراجع مصر إلى 30 أو 40 عامًا، وحدوث فوضى وتعرض البلاد لمخاطر جسيمة، بل إنه كذب، وبشكل قاطع، كل التصريحات والتلميحات التي جاءت على ألسنة خبراء عسكريين، بعضهم ينتمي لمراكز أبحاث سيادية وبعضهم خارج الخدمة، أشارت إلى تورط حماس وبعض العناصر الداخلية في مقتل جنود الجيش المصري على الحدود في رفح، وذلك أثناء إجابته على سؤال الفنان عادل إمام بشأن هوية القتلة، حيث قال بالفم المليان: “,”لو كنا نعرف القتلة مش هنسيبهم ثانية“,”.
المهم هنا أن مخاوف السيسي من نزول الجيش وبالطريقة التي صاغ بها جملة للتعبير عن تلك المخاوف تؤكد أنه يخشى من صدام مسلح مع بعض جماعات الإسلام السياسي الإرهابية، وأنه يأخذ تهديدات أذناب الإخوان، مثل عاصم عبد الماجد وغيره، بالقتل والذبح وإشعال الحرب الأهلية على محمل الجد، وربما أراد توصيل هذه الرسالة فعليًّا إلى المصريين لتخويفهم من الخروج مره أخرى في ثورة ضد بطش مرسي وعشيرته؛ حتى يتمكن من الإيفاء ببنود الاتفاق.
فإن نزل الشعب ثائرًا سيضطر الجيش إلى الوقوف مجددًا إلى جانبه، كما فعل من قبل، وهو ما يعني إخلاله بشروط الاتفاق وإن كان ذلك رغمًا عنه.
والغريب هنا أن يستغل السيسي جنوح طبيعة المصريين إلى السلم وخوفهم من التورط في أتون حرب أهلية؛ لتخويفهم من تهديدات الإخوان وأذنابهم بدلاً من أن يتخذ إجراءات قانونية عادلة تجاه إرهابيين ومخربين، أمثال محمد الظواهري وعاصم عبد الماجد، لكنه على أية حال يفعل تمامًا كما فعل المجلس العسكري السابق، عندما استجاب لتهديدات الإسلاميين بإشعال مصر وتحويل شوارعها إلى نار جهنم إذا لم يفز مرسي، وإن كان سبب الغرابة يكمن هنا في صورة المخلص التي رسخت للسيسي لدى ملايين المصرين الغلابة، التي تؤهله للقيام بدور تاريخي في الحفاظ على أسس ودعائم الدولة المدنية الحديثة، مؤيدًا بالإرادة الشعبية لكنه يسقطها من حساباته.
وظني أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي يخل باتفاقه، والتزامه المعلن والضمني مع الشعب المصري، بالحفاظ على أسس وقواعد الدولة المصرية الحديثة، من حيث التزامه هو باتفاق مشئوم مع جماعة الإخوان المسلمين جرى على حساب مستقبل هذا البلد.
لأن هذه العشيرة من الإسلاميين لن تقبل بتداول للسلطة يسمح بحكومة أو رئيس لمصر من خارج مضاربها، وهذا ما قالة نصًّا عاصم عبد الماجد عندما هدد المصريين بويلات الحروب ليس فقط إذا أسقطوا مرسي بثورة جديدة، وإنما إذا جاءت صناديق الانتخابات بأي من القوى المدنية.
وواقع الحال يؤكد أن جماعة الإخوان تعمل جاهدة لأخونة كل مفاصل الدولة؛ حتى تظل عملية تداول السلطة دائرة في إطارها وليس بعيدًا عنها.. فهل هذا ما يريده القائد العام للجيش المصري.
على أية حال إذا كان ذلك هو ما يريده الفريق أول عبد الفتاح السيسي فعليًّا، فلماذا إذن ترك (حنفية التصريحات) مفتوحة للخبراء العسكريين والإستراتيجيين يلوحون فيها تارة بقرب تدخل الجيش، وتارة أخرى بتورط عناصر إسلامية مصرية وفلسطينية في اختطاف ضباط الشرطة وقتل الجنود السبعة عشر؟ لا سيما وأنه من المتعارف عليه أن هؤلاء الخبراء “,”الجنرالات السابقين“,” لا ينطقون لغوًا، فهم ليسوا سوى رسل للمؤسسة العسكرية.. والسؤال هنا: هل كانت تلك التصريحات بمثابة مناورات مع جماعة الحكم؛ ومن ثم ستتغير في الأيام المقبلة بلغة جديدة تتفق مع ما أعلنه القائد العام خلال تفتيش حرب الفرقة 9 مدرعات بالمنطقة المركزية؟.. لكن اللغز المحير حقًّا أنه في اليوم التالي لحديث السيسي الذي نفى فيه معرفة الجيش بقتلة جنوده في رفح خرج الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء أركان حرب محمد زكي عكاشة، مكذبًا بالكلية لما قاله السيسي، ومؤكدًا أن القائد العام لديه معلومات واضحة حول هوية القتلة، وكان ذلك في برنامج 90 دقيقة على قناة الحياة.. فهل يعني هذا أن الفوضى العارمة التي سادت البلاد وأضحت المتحكم الرئيسي في شئون العباد قد طالت هي الأخرى رجال المؤسسة العسكرية؟ أم أن هذه هي إحدى طرق المناورة التي إن استمرت بعد حديث السيسي الأخير ستزيد الوضع تعقيدًا وستجعل من القائد العام للقوات المسلحة لغزًا كبيرًا في الحياة السياسية المصرية يستعصي فك شفرته؟.