رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وداعًا.. الوزير شاكر عبدالحميد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما شرعت في كتابة هذه الكلمات البسيطة لأرثي أستاذي الغالي، وصديقي الأغلى، وأخي الأعز الدكتور شاكر عبد الحميد الذي رحل عن دنيانا منذ أيام قليلة وهو في كامل صحته وعافيته، فكرت أولا في عنوانها، ودون أن أستغرق وقتًا طويلًا ورد في ذهني مباشرة العنوان الحالي: وداعا الوزير شاكر عبدالحميد، ليس من باب تكريمه وإظهار أحد أدواره الوطنية التي نهض بها في حياته، وقدم فيها الغالي والنفيس، ولكن لأن أهم خصلة ميزت هذا الرجل وتمركزت حولها خصال شخصيته المرموقة الأخرى هي التواضع الجم، وما ارتبط بها من تسامح وعفو وصفح وبساطة وبشاشة وثقة. فلم تتغير شخصيته مثقال ذرة وهو على قمة وزارة الثقافة، ولم أشعر مثل كل من يعرفه بأي تكلف أو تزيد أو تلون أو تغيير فجائي سرعان ما يغلف به الكثيرون أنفسهم عندما يتقلدون المناصب العليا الأقل من ذلك بكثير، ويستعيرون قناعًا مزيفًا لشخصية وهمية هشة تكون قابلة للانهيار في أي وقت، بل وتسقط تحت أقل ضغط، وسرعان ما ينساها الناس فور تركها المنصب.
لقد رحل الدكتور شاكر عبد الحميد، وترك ميراثًا هائلًا من العلم النافع، والأخلاق القويمة، وحب الناس الذي يصعب أن يضاهيه فيه أحد. فلماذا أحب الناس هذا الرجل بهذه الصورة الملفتة؟ ولماذا أجمعوا على أن رحيله خسارة فادحة للثقافة والمثقفين في ربوع وطننا العربي أجمع. لقد كان شاكر عبدالحميد نموذجًا إنسانيًا وخُلقيًا وعلميًا راقيًا يصعب تكراره، بل قل يستحيل ذلك. كان شاكر عبدالحميد مثقفًا موسوعيًا، متعدد الإبداعات، لذلك نال مكانة يصعب الوصول إليها، وحظي باحترام الجميع وتقديرهم في ربوع وطننا الغالي. فهو عالم نفس لا يشق له غبار في مجال الإبداع الفني والأدبي، قدم عشرات المؤلفات التي شكلت فكر مدرسته العلمية الرصينة التي ينتسب إليها الكثيرون، وهو فيلسوف بين الفلاسفة المستنيرين، ومؤرخ بين المؤرخين الأمناء، وناقدًا فنيًا وأدبيًا بين كبار النقاد الموضوعيين، وكاتبًا مرموقًا بين المتميزين، ومترجمًا متمكنًا ينقل للعربية روح النص بأمانه كأنه يؤلف نصًا جديدًا. وأستاذًا جامعيًا موجهًا لا يعرف إلا صالح طلابه، ولا يسعى لتحقيق أي نفع مادي من ورائهم مثلما يفعل ضعاف النفوس، بل كان دائمًا ما يساندهم ماديًا قبل المساندة المعنوية، هذا فضلا عن أنه كان مهمومًا بشئون وطنه، متابع لكل إنجازاته، يتمنى له العزة والكرامة، وحدث ولا حرج في العديد من المجالات الأخرى التي يعرفها الجميع. والاستفاضة فيها تحتاج عشرات المقالات حتى نوفيها حقها.
لكنني سأقف عند الجانب الإنساني والأخلاقي لراحلنا خالد الذكر شاكر عبدالحميد في محاولة للإجابة عن السؤال الذي سبق طرحه، وهو لماذا أحبه الجميع من زملائه وأصدقائه وأساتذته وتلاميذه وكل من عرفه بهذه الصورة اللافتة؟ الإجابة أنه كان نموذجًا راقيًا في كل سلوكياته وأفعاله، وكان قدوة مثالية لمن يرغب في تطوير شخصيته والتخلص من عيوبه. الشيء الملفت أنه كان يعتبر كل من يعرفه صديقًا بصرف النظر عن المكانة والمستوى والعمر، فيشعره بالمودة والألفة والتعاطف والتفهم، ويبث فيه طاقة إيجابية خلاقة، تخرجه من عثراته، وتجنبه ضغوط الحياة، وتدفعه للعمل والإنجاز، وتعيد إليه الثقة المفتقدة. كان إنسانًا ملائكيًا بسيطًا، ابتسامته لا تفارقه، يسأل عن الجميع، ويطمئن على أحوالهم. ولا يلوم من قصر معه، بل يتعاطف معه ويقدم له العذر. ولم يحدث أن أساء لأحد، وإذا حدث وشعر بذلك، فسرعان ما يعتذر بشموخ الرجال. كان يفرح لكل من يحقق إنجازًا في أي مجال من المجالات، فيبادر بتهنئته وكأنه هو الذي حقق هذا الإنجاز. فكان سباقًا لجبر الخواطر في السراء والضراء.
أشهد الله أنه لم يكن يعرف للحقد والغل والبغض سبيلا، وكأن الله سبحانه وتعالى نزعها من صدره النقي وقلبه الأبيض. لم يقحم نفسه في مهاترات وصراعات غير مجدية مع زملاء العمل يشعلها أصحاب القلوب المريضة، بلا طائل من ورائها غير إهدار الجهد، وتضييع الوقت، بل كان ينأى بنفسه عن الصغائر، ويتجاوز عن التفاهات، ويتجنب الهنات، لأنه كان متصالحًا مع ذاته، واعيًا بمكانته، مدركًا أن كل ذلك لا جدوى منه، بل ويعرقل الإبداع، ويعوق تحقيق الإنجازات العلمية التي كانت جوهر حياته وغايته المثلى.
لقد أحب راحلنا الغالي شاكر عبدالحميد الناس، فبادلوه حبًا بحب، وصدقًا بصدق، وإخلاصًا بإخلاص. وإذا كان قد رحل بجسده، فستظل سيرته العطرة شاهدة على حسن خلقه، وسيظل علمه النافع نبراسًا للجميع، وستبقى مدرسته الموسوعية مفتوحة بتلاميذه الأوفياء الذين يحملون الأمانة، وستنير مؤلفاته وترجماته وبحوثه المكتبة العربية في كل أنحاء وطننا. سأظل أشرف بأنني كنت أحد تلاميذه وأصدقائه على مدار خمسة وأربعين عاما منذ التحاقي بقسم علم النفس بآداب القاهرة، فأحاطني برعايته الكريمة، وأخوته الصادقة، وعطفه الحنون، وكرمه السخي، وتسامحه اللامحدود، وتشجيعه ومساندته الدائمة، وعطائه الفياض الذي كان آخره اتفاقنا على مشاركته في ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة قبل رحيله بأيام قليلة. رحمك الله أخي الحبيب، وأعانني على آلام الفقد، ومرارة الفراق وكل محبيك، وجعل كل ما قدمت من منافع للناس في ميزان حسناتك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.