فى شهر أكتوبر عام 2003 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد، واختارت يوم 9 ديسمبر من كل عام ليكون اليوم الدولي أو اليوم العالمى لمكافحة الفساد لإذكاء الوعي عن هذه المشكلة وخطورتها، وعن دور الاتفاقيه فى مكافحتها ومنعها.
والفساد بمفهومه الواسع والشامل هو أحد أهم التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات، وخاصة الدول النامية ربما لتوسع انتشاره واستشرائه مع ضعف موارد تلك الدول وعدم قدرتها على تحمل عواقبه، وقد يكون أحد العوامل المؤثرة هو عدم قدرة تشريعات وقوانين تلك الدول على التصدي الكافي لهذه الجرائم والقضاء عليها أو أضعف الإيمان حصرها والإقلال من انتشارها وتأثيرها.
وقد كان، وما زال الفساد يمثل أهم التحديات التى تواجه القيادة السياسية فى مصر منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي قلادة الحكم فى عام ٢٠١٤، وذلك على الرغم من تصديه بكل قوة وحسم، بل أيضًا بشجاعة ربما غير مسبوقة فى التصدي للفساد والإطاحة بالفاسدين، أيًّا كانت مواقعهم، وقد رأينا جميعا كبار مسئولين فى الدولة يتم إلقاء القبض عليهم، وتقديمهم للمحاكمة بتهم فساد دون النظر إلى حساسية أو أهمية مواقعهم. والأكيد أن صعوبة وحدة هذه المشكلة، وتلك المواجهة جاءت نتيجة انتشار الفساد لعقود طويلة مضت وتفاقم الظاهرة وعدم القدرة -أو ربما الرغبة- فى مواجهتها إلى أن أصبح الفساد -للأسف- نظام حياة، فأصبحنا نرى كبار وصغار المسئولين يتقاضون الرشاوى ويمارسون أشكالا مختلفة من الفساد، ثم يؤدون طقوسهم الدينية ولا يدركون أن ما يمارسونه جرائم حرمتها الأديان وتعاقب عليها القوانين.
والفساد مرض يصيب كل مناحي الحياة، فهناك الفساد الإداري، والفساد السياسي، والفساد الاجتماعى، وبالطبع الفساد الأخلاقي، وهو السبب الرئيسى وراء كل أشكال الفساد، إلا أن حديثنا هنا ينصب على الفساد الإداري. وهنا يثار تساؤل قد يبدو للوهلة الأولى ساذجا وهو: ما هو تعريف الفساد الإداري؟ وما هى الممارسات التى قد يقوم بها المسئول فى موقعه وتندرج تحت وصف أو تعريف الفساد؟ وهل يدرك المسئول حين قيامه بأي من تلك الأفعال أنه يمارس نوعا من أنواع الفساد، وأنه بالفعل يعتبر أو يمكن وصفه بالمسئول الفاسد؟
مما لا شك فيه أن أي مسئول يدرك أن اختلاس الأموال وقبول الرشاوى والتربح بطرق غير مشروعة من منصبه هى ممارسات فاسدة، ولكن هل يدرك كل مسئول فى موقعه أن الممارسات التالية تعتبر فسادا حقيقيا، وخذ على سبيل المثال لا الحصر ما يلى...
-تعيين الأشخاص فى المناصب بالمحسوبيات أو المجاملات أو تبادل المصالح بغض النظر عن الاستحقاق بالكفاءة والخبرات اللازمة.
-التفرقة بين المرءوسين بالجنس أو الدين أو العلاقات الشخصية، وليس بالكفاءة، وتميز الأداء والإنجاز.
-التستر على مسئول فاشل فى موقعه، وعدم اتخاذ القرار باستبداله فى الوقت المناسب، وبالتالي ضياع الوقت والفرص على الموسسة أو جهة العمل.
-قيام المسئول بالمبالغة فى تقدير مقدراته المالية ومميزاته الوظيفية أو القيام بنفس الشيء لمرءوسيه دون الأخذ فى الاعتبار ظروف المنشأة أو الحالات المماثلة.
-النفاق بجميع صوره وأشكاله، سواء نفاق الرئيس فى العمل أو قبول نفاق المرءوسين، وذلك لتحقيق مصالح أو الحصول على مزايا غير مستحقة.
-تعيين الأقارب والأبناء، وتوريث المناصب والاستفادة بطرق مباشرة أو غير مباشرة لنفسه أو لذويه من منصبه، وأي نوع من الممارسات التى تندرج تحت وصف تضارب المصالح.
-عدم خلق صف ثاني من ذوى الكفاءة ومحاربة الأكفاء لخوف المسئول على موقعه.
هذه فقط بعض الأمثلة لتصرفات وأفعال تمارس من مسئولين بل أحيانا من كبار المسئولين دون إدراك أو وعي منهم أنهم يمارسون فسادًا حقيقيا يؤدي إلى وقوع أضرار جسيمة بالمؤسسات أو جهات العمل، ويمكن وصفهم بالفاسدين.
الفساد لا يقل خطورة عن الإرهاب بل فى الواقع، إنهما وجهان لعملة واحدة، عملة الدمار والهدم لكل الجهود المخلصة التى تبذل فى البناء والتنمية، فكلاهما أعداء حقيقيون لهذا الوطن، وكما كانت هناك آراء تطالب بتعريف الإرهاب وتوصيف الأفعال التى يمكن اعتبارها أعمالا إرهابية أرى أن يتم نفس الشيء لمختلف التصرفات التى يمكن إدراجها وتصنيفها تحت مسمى (فساد إداري). وكما يطالب كل العقلاء بمحاربة الإرهاب فكريا بالإضافة إلى محاربته أمنيًا، فان محاربة الفساد تكون أيضًا فكريا وأخلاقيا قبل محاربته أمنيًا، ولنبدأ هذه الحرب من المدرسة والتعليم الأولى، ونعيد حصص ودروس تعليم الأخلاق، وقيم المجتمع المصري الأصيل ليعود الأمل من جديد فى الأجيال المقبلة.