أصبحت من البديهيات في الدولة المصرية، معرفة مدى خطورة البناء على الأراضى الزراعية والتى استفحلت بشكل مخيف، وأن ذلك يتعلق بمصير أجيال متعاقبة. خاصة وأن الصحراء في مصر تزيد على 92% من إجمالى مساحة الدولة.
ومن العجيب أن الله منح مصر تلك النعمة الكبرى من الأرض الزراعية، بينما تمنت دول كثيرة أن تحظى بتلك النعمة دون ان تنولها، ومع ذلك يسعى بعض المصريين لتدمير تلك النعمة المهداة.
ومن المهم أن نشير إلى الحافز والعامل الحاسم الذى يدفع مالك الأرض الزراعية للتفريط فيها. فالعاملون في الخارج من أبناء الريف، يحولون مليارات الدولارات إلى مصر سنويا، وإذا تم تحويلها للجنيه المصرى، تصبح أرقاما متعاظمة، يتم استخدامها في شراء أراض زراعية للبناء عليها. فحلم امتلاك مسكن صغير للأب وأبنائه وبناته، يعتبر بمثابة الحلم الأكبر «ويسميه المصرى سترا وغطاء» بعيدا عن مشكلات الإيجار الجديد وعدم تجديده وزيادته والعجز عن دفعه والطرد والمحاكم وغير ذلك. وبالتالى وصل سعر الفدان الواحد أحيانا إلى عشرين مليونا وغالبا إلى خمسة ملايين جنيه. وفى ظل أسعار فائدة تزيد على 12% فقد يكون الإغراء لا يقاوم لفلاح يمتلك فدانا أو فدانين بأن يبيعهما بالملايين، ويضعهما في بنك كوديعة، ويتقاضى عشرات الألوف شهريا كعائد صاف، يعيش به ملكا ودون عناء الزرع والحصد والرى والحرث والعزق. ويشارك العاملون في الخارج في هذا المجال، مجموعة من المدرسين محترفى الدروس الخصوصية، وكذا مجموعة من المهنيين المهرة كالمهندسين والأطباء والصيادلة وغيرهم من التجار وأصحاب الورش والمطاعم. وينضم اليهم أيضا طبقة الموظفين الذين يتوفى مورثهم، فيسعون بكل طريقة ممكنة لبيع أنصبتهم بالملايين، ليخرجوا من حالة الاحتياج إلى حالة أصحاب الودائع والشهادات ذات العائد، ويزيد الطين بله، أن معظم مدننا مقامة على أراض كانت زراعية، وأن تلك المدن ملاصقة للقرى. وبالتالى أصبح أبناء المدن مشاركون لأبناء القرى في البناء على الأرض الزراعية. كما ساهم تحرير العلاقة الايجارية في لجوء كثير ممن يملكون المال لشراء الأراضى الزراعية بأعلى الأسعار والبناء عليها كاستثمار مربح يزيد عائده سنويا. كما ساهمت السياسات الخاطئة فيما يعرف بزيادة الأحوزة العمرانية للقرى والسماح بالبناء على المتخللات، ليجد شخصا ما بين يوم وليلة بتحول أرضه رسميا من أرض زراعية إلى أرض للبناء وهبوط ملايين الجنيهات على رأسه بالبراشوت فجأة. وأيضا ما يعرف بشهادات عدم وجود مصادر لرى الأرض الزراعية، وبالتالى رفع قضايا أمام المحاكم والحصول على أحكام من واقع الأوراق، وغير ذلك كثير «من ملاعيب شيحه وإخوته، كما يقول المثل المصرى الدارج».
لكننى لم أجد من يفطن إلى مشكلة أخطر من ذلك بكثير!! وهى البناء على ما تحت هذه الأرض الزراعية. وأنا لا أقصد ما تحت هذه الأرض مما قد يكون من ثروات بترولية أو غازية أو معدنية، فتلك ستظل موجودة ومحفوظة، لكننى أعنى تلك الثروة التى تمثل طبقة عمقها عدة أمتار من التربة الطينية الصالحة للزراعة «تكونت وتراكمت فوق بعضها على مدى ألاف السنين من طمى النيل ومن تسميد الأرض»، وهى طبقة لو تم استخراجها وفردها على أرض صحراوية، لساهم الفدان الزراعى الواحد في اصلاح نحو عشرة أفدنة. وبالتالى لا أفهم لماذا قام من بنى على أرض زراعية بطمر كل تلك الأمتار العميقة من التربة الصالحة للزراعة «وهى عملية قتل مع سبق الإصرار والترصد»، وعدم استخراج تلك التربة قبل البناء عليها، وإلزامه بتسليمها للدولة. وكان البعض يزيل عمقا قدره، متر واحد أو متران أو ثلاثة ويبيعها بأرقام خيالية لمصانع الطوب. وبالتالى فعندما يتم الاعتداء على فدان واحد من الأرض الزراعية والبناء عليه، فحقيقته أنه تم الاعتداء على عشرة أفدنة، وهبها الله لمصر على مدى آلاف السنين.
كما أشير إلى أنه ليس الطريق الأساس لمنع البناء على الأراضى الزراعية هو محاضر الشرطة والتحويل للنيابة العامة أو إزالة البناء، أو غير ذلك من أمور تستهلك جهد الدولة [ولا شك أنها أمور مهمة وضرورية] لكن الأسهل بالتوازى معها، تلك الإجراءات السهلة والرادعة، حتى لو تطلبت تعديلات تشريعية:
- عدم تسجيل أى عقد عقار يقع على أرض زراعية، إلا بعد المعاينة من لجنة يرأسها عضو من هيئة قضائية.
- فرض غرامة تعادل 100% من السعر السائد في السوق لأى قطعة أرض زراعية يتم الاعتداء عليها «إضافة إلى الإجراءات الأخرى الموجودة كالإزالة وغيرها».
- فرض ضريبة تصرفات عقارية قدرها 50% من السعر السائد في السوق للتصرفات الواردة على أرض زراعية تحولت قانونا لأرض مبان.
- عدم قبول دعاوى إثبات صحة توقيع أو صحة ونفاذ، على أراض زراعية إلا بعد المعاينة من لجنة خبراء خماسية تشكلها المحكمة المختصة من الجهات ذات العلاقة «العدل- الداخلية- الزراعة- الحكم المحلى- الرى».
- تغليظ عقوبة السجن على مرتكب الجريمة سواء كان بائعا أو مشتريا أو مقاولا أو عامل بناء «حيث على المقاول أن يتأكد من صحة الترخيص، كما عليه عدم البناء لأى مبنى بدون ترخيص» وعلى الدولة توفير وسيلة للاستعلام السهل عن صحة الترخيص.
- تسليم التربة الزراعية للدولة، الخاصة بمساحة الأرض المصرح بالبناء عليها.
- توفير وسيلة سهلة للإبلاغ عن عمليات البناء غير المرخصة، دون الكشف عن اسم المبلغ.
- عدم توصيل المرافق دون إرفاق نسخة من عقد التمليك أو البيع والشراء وسداد الضرائب المقررة.
........ وغير ذلك كثير.