رغم مايشاع من آراء تتحدث عن قطيعة مع التراث،أو أندثار للتراث أو أقصائه، الشفاهي منه والمادي،إلا أن مايخرج علينا من أدبيات شعر وقصة وراوية ومسرح وفنون تشكيلية،ظل يتكأ على مرجعية ثقافية تراثية، محلية وعالمية (حكايا الجدات، ألف ليلية وليلة،قصص الحيوانات في كليلة ودمنة،...)، كما ما نلامس من مستعملات حياتية في منطقتنا، أو ما يأتينا من العالم البعيد ( لم تترك الصين منتجا تقليديا ولم تطوره،مصابيح رمضان نموذجا)، كل ذلك يوكد أنه رغم صيرورة الحياة والعصرنة التي نعيشها،وما ارتبط بعاملي العولمة والتكنولوجيا التقنية،إلا أنه لم يُغيب استعادةً إنسانية لما فرضهُ مبدأ أن الحاجة أُم للاختراع، أو أمكانية لتطوير ذلك المنتج ونقله من حالته الاولى إلى مادة متجددة تقدم فائدة وخدمة ما لمستعملها اليوم.
وقد لفتني إعلانات لمطاعم بقُرى مصرية، تعيد أحياء صناعة التنور، من الطين، المسمى "التنور البلدي"،ودون تطوير أو أية أضافات للتنور الأصل، هي العجينة والسبك للطين ثم تشكيل التنور كقبة أعلى سطح الأرض، مع فتحتي تسريب غاز الفحم أو جريد النخل،و فتحة وضع العجين.صحيح أن صناعة خبز التنور كانت مهمة ربات البيوت، وهنا المنشغلون بالخبز لجمهور المطعم هم من الصنايعية، العاملين،وحيث الخبز( العيش) يتخذ أشكالا مختلفة عما شاعت قبلا، كما واستثمار أو توظيف التنور في مآرب أخرى، تتعلق بالطبخ وتسخين الوجبات، والإعلان عن الشروع في تقديم مايجود به التنور لقي أعجابات كثيرة بين مديح لصنعة الاجداد!،وبين راغبين في اكتشاف ما لم يعرفونه بحكم غلبة معاصرتهم كجيل لمطاعم الخبز الجاهز في محلات الوجبات السريعة.
وفي طفولتي،كان مشهد النساء عند التنور،وأعدادهن لخبزه،من المشاهد المحببة، فقد رافقتهُ جلسات نستمتع فيه أطفال العائلة، بنصيبنا منها طازجة ساخنة، ووسطها الجبن اللذيذ سائحا،لكن ماظل عالقا بمخيلتي هو مقاربة النساء اللهب، الحرارة المرتفعة، الحطب مشتعل،لهبهُ يتصاعد، وتراها ترمي بالمزيد منه، أو تُموضعه بأهتمام، ليتلائم في أحاطته، وما ستصفه من دوائر العجين على جدار التنور الطيني،تسمى بليبيا (خبزة الفتات)، ووجهها ونصف جسدها في معمعة اللهب، الكربون تشمه في رحلته من انفها إلى الرئتين، وتواصل فعلها!!، وكأنها والحرارة صنوان!!، هذا ليس مهنة متفاوتة الزمن تحضر في اللحام أو الحدادة،هذا يحضر في سائر عمرها كراعية لبيتها، ويجب عليها صنع وتوفير الخبز اليومي، قبل أن يعرف الناس المخابز العامة، والافران بالبيوت الحضرية.
واستعادة التنور الطيني ليس في مصر فقط،فعلى محرك البحث الغوغول،يطلع التنور في العراق،وسوريا،واليمن، وتونس،وفي بلدي ليبيا،تسترجع نساء بالمدن الاطراف علاقتهن بخبز التنور،حتى ولم يعد التنور طينيا فقط بحفرة تحت الأرض أو أعلاها، بل صار تنورا معدنيا مصنعا، يحتل مكانه بفناء البيت أو حديقته،وأحترف بعض الشباب ممن لم يحصلوا على فرص عمل، صناعة خبز التنور، وكسب عيشهم وتوفير مصروفهم اليومي بدل الاعتماد على أولياء أمورهم.
يبقى الحديث عن ماله علاقة بالحفاظ على البيئة في استعادتنا لصناعة التنور وخبزه،فتصاعد الكربون(الفحم)، كغاز هو ملوث للهواء، ثم استنشاقه من قبل صانعته أو صانعه كما أثره على المحيطين في ضرره بالجهاز التنفسي،وعلى ذلك تصبح وظيفة المخابز الكهربائية أنجع في لجم هذه الأضرار وأوفر للجهد والوقت، ما يطرح سؤالا عن هذا الحنين المُستعاد ( نوستالوجيا) مؤخرا باستثناء من ألزمته الظروف الطارئة،واللجوء إليه كحل، من هم بالمخيمات في بلدان الصراع مثلا، أو البعيد عن كونه اشتغالا سياحيا يُعرف بتقاليد سادت بمنطقة ما،حين يصير ممدوحا ومرغوبا به من أفراد وجماعات، بمجتمعات مَدينية حديثة!.