الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يسري عبدالله يكتب: ذهنية النوم والجمود!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ليس ثمة نوم فحسب، بل استنامة، وتلذذ بالنوم أيضا، وارتماء في أحضان البلادة، والكسل العقلي، والاتجاه الدائم صوب التكريس للجاهز، والانحياز إلى السائد والمألوف، وهذه آفة العقل الراكد الحقيقية، فالخروج إلى النور لا يقتضي أن يفكر الإنسان دائما فحسب، ولكن أن يطور من نفسه، ومن أفكاره أيضا. ويتجلى هذا جميعه في كل شيء، في الفن والفكر، في السرد والشعر، في الموسيقى والحياة، في الواقع، والفضاء الافتراضي، حالة تذكرك بنمط الكلمات الجاهزة التي يكتبها الناس في الأعياد والمناسبات، وإذا كان ذلك يحمل مبررا إنسانيا مهما، فإن هذا المبرر ينتفي في حال تلقف فكرة جاهزة، وتداولها دون أي تفكير، أو الحرص الشديد على كتابة أي شيء، وبث أي شيء، لمجرد إثبات الحضور. يمكن لنا أن نتفهم ذلك في سياق مجتمعي ضاغط، يحتاج فيه البشر إلى مساحة من البوح الشخصي، وهذا عظيم في جوهره، لكن انسحابه – مثلا - على الكتابة الإبداعية التي تحتاج عناية حقيقية بالقيم الجمالية، واهتمام واعٍ بالمغامرة الفنية والموضوعاتية، يُحول النصوص إلى "فضفضة" مجانية ساذجة، واجترار ذاتي مغلق المعنى والدلالة. 
إن الجمود حينما يسيطر على المناخ العام لأية جماعة بشرية فإنه لا يجعلها ترتمي في حضن الماضي فحسب، ولكنه يحول دون امتلاكها وعيا ممكنا قادرا على الاستشراف، فتبدو مفصولة الرأس عن الجسد، واقعها يشير إلى زمن، ووعيها يشير إلى زمن آخر.
والخيال الإبداعي وحده القادر على تحويل الواقع الحي إلى فن، إلى منح البشر اقتراحات جديدة، إلى تخليصهم من التنميط الجاهز، وحينها سيتجلى هذا كله في كل شيء، بدءا من المغامرة الجمالية في الفن، إلى السلوك اليومي للإنسان العادي حين يصير جميلا وإنسانيا بحق.

على الرغم من أن نظرية المعرفة قد قطعت أشواطا هائلة في التفكير والبحث، والتحديث المستمر للأنساق الفكرية الحاكمة، إلا أن ثمة إصرارا لدينا في الثقافة العربية على أبدية كل شيء، وتثبيته، ووضعه موضع الجاهز والمألوف، وبما يعني أن الرغبة العارمة التي تنشأ في الذهنية العربية لتنميط الأشياء هي أكثر من حاجة نفسية واجتماعية، وكأنها خلل بنيوي في التفكير، وفي طبيعة النظرة إلى العالم، والواقع، والأشياء.
إن العالم الذي لم يعد يعرف الثبات، والذي ينطلق من تصورات نسبية دائما، سيبدو هنا في الذهينة العربية مستقرا، مألوفا ونمطيا، يعتمد على اليقين بوصفه أصل الأشياء؛ ولذا فالمفاهيم لدينا لا تحتمل سوى وجه واحد، والحياة تدور بين شقي رحى، ورؤية العالم تنحصر في فسطاطين كبيرين، دون أية تعقيدات يحملها واقع مسكون بالتحول والاختلاف، وينهض على التعقد والتشابك، فهناك تأويلات مختلفة للواقع، وصور متعددة له، والتصورات الرومانتيكية التي ترى العالم إما خيرا محضا، وإما شرا مطلقا، تعد نتاجا لنظرة أحادية لم توسع من مداها فترى على نحو أعمق. 
وعندما بدأت بعض الأفكار ذات النزعة الحداثية تخترق القشرة الصلدة للثقافة العربية، على غرار المنهج البنيوي، كان التلقي العربي البائس لأفق النظرية البنيوية، وحصرها في الإجراء النقدي المعتمد على فكرة الثنائيات الضدية أو المتعارضة، في حين أن البنيوية نفسها طورت من أدواتها كثيرا فيما بعد، وبدت المناهج والنظريات النقدية والفلسفية بعدها حاملة هذا القدر من الوعي بقيم التعدد الخلاق، التي تحكم المفاهيم والتصورات بإزاء العالم، فليس ثمة مركز بعينه، ولكن هناك مراكز معرفية متعددة، وليس ثمة هامش وإنما قد يوجد الهامش الذي يُشكل المتن، وليس ثمة ثنائيات يقوم عليها العالم، وإنما تجاور بين صيغ ثقافية مختلفة.
لقد ألقى السياسي بظله على المعرفي في عالمنا المعاصر، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، وبداية عصر الهيمنة للقطب الأمريكي الأوحد، أصبح المركز الأورو أمريكي الفاعل الوحيد في إنتاج المعرفة، وأداة السيطرة على حركة الأفكار وتشكلها في العالم، غير أن طبيعة نظرية المعرفة ذاتها وقيامها على آليات التنوع والتعدد والتجاور، جعلنا أمام مراكز ثقافية مختلفة، وإسهامات فكرية متعددة، لا تتوقف عند ثقافة بعينها باعتبارها الرافد والمصدر الرئيسي، ومن ثم كان الوعي بمغالبة احتكار المعرفة وعيا بالمعرفة ذاتها، وبقدرتها على ترسيخ كل ما هو حر وتنويري بامتياز.
وفي ظل هذه التحولات المعرفية والجدل الفكري الصاخب في العالم، لم تزل الذهنية العربية تحيا في الماضي، تحاول تثبيت اللحظة دائما عند نقطة بعينها، ترى فيها المخرج والملاذ، وهذه النقطة تنتمي إلى قرون غابرة، حيث يعتقد الكثيرون أن العودة بالزمن إلى الوراء ولمئات السنين يحمل المجد والنجاة، وينسى هؤلاء أن استعادة الماضي وتفعيل منطقه في النظر إلى القضايا الراهنة سر نكبتنا الحقيقية، وجمودنا الراهن، فالذهنية الجامدة ذهنية ماضوية بالأساس، تحمل تصورات محددة سلفا، وتنطلق من يقين دامغ، وترى ماكان، خيرا مما هو آتٍ، وتجعل من القديم معيارا للجديد وحكما دائما عليه.
تضع الذهنية الجامدة الجماعة الإنسانية على حافة الجهل والكراهية والتعصب، حيث تكرس للنعرات الطائفية والعنصرية، فيفقد معها الإنسان بهاءه الحقيقي في كونه جديرا بالمعنى، وممثلا لكل ما هو جميل وتقدمي ونبيل.
لقد لعبت قوى الإسلام السياسي دورا مركزيا في استبقاء الذهنية العربية عند حدود الماضي، ووظفت المقدس في ذلك توظيفا كاملا، وسعت إلى خلق حالة من الاستسلام للقديم، والاستنامة الدائمة، والأدهى أيضا أنها وضعت نفسها دائما في خدمة المستعمر، مهما تغير شكل الاستعمار أو تبدل، فأصبحت وكيلا عنه لترسيخ التخلف والتمييز في لعبة ماكرة صنعتها أجهزة مخابرات وساسة ومفكرون غربيون، ومتثاقفون عرب أيضا.
إن جزءا مركزيا في محاولة إيقاظ العقل العربي، وإخراج الذهنية العربية من محنتها التي رضيت بها، وتنعمت داخلها في بؤس الفكر وفقره، سيعتمد على نحو أساسي على تفعيل التفكير النقدي، وإعطاء مساحات أوسع للتأمل المستمر بإزاء الظواهر مهما بدت درجة وضوحها، وبما يعني انحيازا للخيال الجديد، في مواجهة التصورات القديمة، فخلخلة السائد والنظر إليه من زوايا مغايرة، ومساءلة الماضي وعدم الانصياع لمظاهره وأفكاره، تعد جميعها أمورا أساسية في الخروح إلى النهار، حيث تكون الشمس أقوى من أي برهان، والضوء لامعا مثل روح مشعة تعانق السماء.