يعد المفكر الفرنسى جاك آتالى واحدا من أهم الأكاديميين فى مجال الاقتصاد، فقد صنفتة مجلة Foreign Policy فى عددين لها صادرين فى عام 2008 وعام 2010 باعتباره واحدا من أهم مائة مفكر فى العالم وعينه رئيس الجمهورية الفرنسية رئيسا للجنة تحرير النمو الاقتصادى الفنرسى عام 2007.. يطرح فى كتاب "غدا، من سيحكم العالم؟ والذى نقله الى العربية المترجمة البارزة سونيا محمود نجا والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، سؤال بالغ الأهمية فى ظل حالة الفوضى التى تجتاح العالم، من سيحكم العالم غدا؟ الولايات المتحدة؟ الصين؟ الهند؟ أوروبا؟ مجموعة العشرين؟ منظمة الأمم المتحدة؟ أم تراها الشركات متعددة الجنسيات وعصابات الجرائم المنظمة هى التى ستمسك بمقاليد الأمور فية وتسوسة؟ أى بلد؟ أى تحالف؟ أى هيئة دولية سيكون لها من الإمكانيات ما تحجم به التهديدات البيئة والنووية واالقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التى تترصد العالم وترمى بأثقالها عليه؟
من سيتمكن من تقييم الإمكانيات الهائلة لكل الثقافات؟ أيتوجب ترك الأديان تهيمن على العالم أم تسليم قيادة للإمبراطوريات والأسواق؟ أم ردة إلى القوميات وإعادة غلق الحدود بينها فيه؟ يوما ما ستدرك الإنسانية أن من صالحها التحلق حول حكومة ديمقراطية تتولى أمر العالم كله متجاوزة مصالح أكثر الأمم قوة ومقدرة، حكومة تحى هوية كل حضارة وتدبر باقتدار مصالح الإنسانية جمعاء.
ستظهر مثل هذه الحكومة إلى الوجود يوما، وسيكون ذلك خلفاً لكارثة أو توقيا لحدوثها؟ يتوجب إذن الإقدام على التفكير فى الأمر لصالح هذا العالم . إنه إلى حين تفرض هذه المسلمات نفسها فإن السوق ليس بمقدورها العمل بشكل صحيح دون سلطة القانون، وهذه الأخيرة يصعب تطبيقها واحترامها دون وجود دولة.. والدولة فى ضوء ذلك لا يستقيم بقاؤها إلا إذا كانت ديمقراطية بحق.
ظاهر الأمر أنه لن يتسنى لإمبراطورية أو سوق السيطرة على المشكلات الهائلة التى سيكون على العالم مجابهتها، مما قد يتطلب حكومة عالمية تأخذ شكلا أقرب ما يكون للأنظمة الفيدرالية المعروفة حاليا.. ويمكن القول: إن الاتحاد الأوروبى يشكل، بما لا يدع مجالا للشك، أفضل مختبر لذلك، والتكليفات المنوطة بهذه الحكومة المرتقبة هى من ناحية إدارة المصالح العامة لكوكب الأرض، ومن ناحية أخرى التيقن من احترام كل أمه لحقوق كل مواطن ينتمى للإنسانية. أما حكومات الأمم فستترك لها مهمتى التأكيد من احترام القوانين الخاصة بشعوبها وحماية ثقافاتها.
أما توقيت ظهور هذه الحكومة فأغلب الظن أنه سيكون عقب فوضى اقتصادية ونقدية وعسكرية وبيئية وديمجرافية وأخلاقية وسياسية عارمة. وهناك احتمالات ضعيفة فى أن تظهر إلى الوجود تداركا لحدوث هذه الفوضى ومن ثم تبدو للعيان باعتبارها علاجا لصدمة.. ويتوقع البعض أن يكون ظهور هذه الحكومة متدرجا فى خضم الفوضى عن طريق تراكم وتداخل شبكات عدة تنسجها دول ومؤسسات ونقابات واحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية وأفراد.. وهى قد تتسم بالشمولية أو بالديمقراطية وفقا للطريقة التى سترمى بها ركائزها.. من هنا تظهر أهمية سرعة التفكير فى أمرها قبل أن يدركنا القت ونصبخ أحد تروسها.
دأب الناس منذ آلاف السنين على التجمع فى فرق وشعب مكونين قبائل وقرى وتجمعات أكثر شمولا.. ذهب خيالهم فى بادئ الأمر إلى وجود قوى عليا توجب الخضوع لها نسبوها الى الطبيعة، ثم إلى عدة آلهة، حتى استقر بهم الأمر عند الإلة الواحد المانح لكل شىء: للحياة والغذاء والصحة والموت.. كان العالم بالنسبة لهم محكوما بقوى خفية ، ومن ثم يمكن الذهاب إلى أن الآلهة قد شكلت أول حكومة للعالم.
أعقب ذلك تمرد البعض على فكرة الخضوع الكامل والتبعية للطبيعة والآلهة واستئثارهم بحكم العالم.
فى بدايات القرن العشرين قادت الأزمة الجديدة ذات السمت الاقتصادى فى بداييتها والتى اضحت سياسية بعد ذلك وعبرت الأطلنطى إلى الحمائية وإلى صدام وصف لأول مرة "بالعالمى"، مرة أخى تناحر منافسو الإمبراطورية السائدة من الفرنسيين والألمان وتطاحنوا فى حروب تاركين الطرف الثالث وهو هنا الولايات المتحدة الأمريكية التى تجنبت الخوض فى أساس العداء ، يستولى على السلطة : انتقل التمركز عقب هذه الأزمة من "لندن" واستقر فى "بوسطن" عابراً الأطلنطى.. اجتاحت العالم حرب عالمية وديكتاتوريات عاتية وأيديولوجيات كريهة، طالبت هى الأخرى بحكومة للكوكب بأسره.
ونشير هنا إلى ظهور محاولتين لإقامة حكومة عالمية جاءت كل منهما عقب صراع وليس لتحل محلة.. هاتان المحاولتان تتمثلان فى "عصبة الأمم" و"منظمة الأمم المتحدة" وقد أخفقتا الأولى أمام قدوم النازية و الأخرى نتيجة وجود "الحرب الباردة".. عقب عام 1945 احتل مركزا " نيويورك " و"كاليفورنيا" تباعا مكانة مركز "بوسطن" التجارى واحتل الدولار الصدارة بدلا من الجنية الإسترلينى كما هيمن التزواج المتناقض الأمريكى السفيتى على العالم.
للمرة الأولى ونتيجة حيازة البشرية للسلاح النووى كان يمكنها الإقدام على الإنتحار و إدراك مدى ندره مواردها . فى عام 1989 وبعد تفتت الكتلة الشرقية أنفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة على العالم أو هكذا بدا لها الأمر.. وقد أطلقت على هذا الوضع الجديد مصطلح " النظام العالمى الجديد".. تلا ذلك وعلى غرار ما حدث فى نهاية القرن التاسع عشر، أن عم الكرة الأرضية نوع من التفاؤل العولمى، انفتحت قارات على بعضها البعض بل والتحمت وتضامنت.
أصبحت الأسواق إجمالية وتضخمت المؤسسات واتسعت لتشمل أنحاء عدة من الكرة الأرضية: تقنيات منوعة على شاكلة الشبكة العنكبوتية قللت من التكلفة والزمن اللازمين لقطع البشر والأشياء والأفكار للمسافات الطويلة، جعل ذلك قيم الغرب وعلى رأسها الحرية الفردية بصورتيها الملموستين: السوق والديمقراطية من المطالب الكونية وشاهد ذلك ما جرى حديثا فى تونس ومصر.. كل ذلك جعل العالم يتجانس ويتشابة ما حيا ما بين أقطاره وأمصاره من فروق ثقافية.. فى آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وفى العالم العربى باستطاعة جزء من الفقراء الوصول والأنتماء للطبقة الوسطى.. عدد لا حصر له من الهيئات الدولية العامة والخاصة، الرسيمة وغير الرسمية يدير على ما يبدو كل المشاكل التقنية والسياسية والأقتصادية والثقافية والاجتماعية الخاصة بكوكب الأرض . وهى تشكل فى مجملها نوعا من الإدارة المتحدة للعالم، عسير التعبير عنها بالألفاظ. وحتى لا نستبق الأحداث ونتكلم عن حكومة للعالم ليكن حديثنا عن "الحكم" هنا ما يصل مجملة إلى مائتى رئيس دولة تقريبا يمكنهم حضور ما يقرب من أربعة آلاف مؤتمر سنويا فى مقابل اثنين فقط خلال القرن التاسع عشر ويمكن كل عام حصر عدد متزايد من رؤساء الدول من المؤتمرات.
وللحديث بقية