الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القس عيد صلاح يكتب: الرجاء الحي من الحوار مع النفس إلى مناجاة الله

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في جائحة كورونا نعيش مشاعر مختلطة، لنا إيمان وثقة في الله وفي نفس الوقت نجتاز مشاعر الخوف والقلق، هذه المشاعر المختلطة قديمة حديثة عاشها رجال وأنبياء الله من قبل وعبَّروا عنها، وهم يجتازون في كل الظروف الصعبة والأحوال القاسية معبرين عن الواقع البشريّ والإنسانيّ الضعيف.
وهي نفس المشاعر التي كتب من خلالها مزمور 42، 43 إذ يردّد الكاتب في المزمورين ثلاث مرات هذا السؤال: لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ ارْتَجِي اللهَ، لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، لأَجْلِ خَلاَصِ وَجْهِهِ. (مز 42: 5، 11/43: 5). ثم يصل إلى الاعتراف الصريح في مزمور 42: 6 إذ يقول: "يَا إِلهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ، لِذلِكَ أَذْكُرُكَ". الكاتب يتنقل من الحوار مع النفس: لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ إلى الحوار مع الله: "يَا إِلهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ. لا يقف الأمر إلى أن نعرف ونكتشف مخاوفنا ولكن نأتي بهذه المخاوف أمام الله.
الكاتب هنا ليس مثاليًا في التفكير بل نستطيع أن نقول أنَّه كان أكثر واقعية، فقد عبَّر عن انفعالاته ومشاعره دون خوف، فقد حاور نفسه، وخرج بالحوار من نفسه إلى الله. يعترف أنه إنسان ضعيف، وأن الواقع الذي يتعرض له ويعيشه واقع صعب، نفسه منحنية وتئن. والأنين هو العامل المشترك بين البشر "فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ." (رو 8: 22).
النفس التي تصرخ معبرة عن القلق والاحباط واليأس والوحدة وفقدان الأمل في المستقبل، هي النفس التي تطلب الرجاء في الله وتلقي بنفسها على صخرة الإيمان المتينة، والإيمان في الله الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال من حوله. هذا الرجاء هو الذي شكل عقلية وذهنية كاتب مزمور 42، 43 له ثلاثة أبعاد هامة، وهي:
البعد الأول: الماضي ومعاملات الله
البعد الثاني: الحاضر الألم والمعاناة
البعد الثالث: المستقبل الفرح والرجاء
البعد الأول: الماضي ومعاملات الله
يتذكر كاتب المزمور ذكريات طيبة عندما كان يسأل أسئلة صعبة مثل صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلًا إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟».(مز 42: 3) وكانت الذاكرة تعود للوراء فيقول: "هذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ: لأَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ مَعَ الْجُمَّاعِ، أَتَدَرَّجُ مَعَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللهِ بِصَوْتِ تَرَنُّمٍ وَحَمْدٍ، جُمْهُورٌ مُعَيِّدٌ." (مز 42: 4). يتذكر بهجة العشرة مع الله فيالعبادة، والأيام الجميلة في الهيكل، والصلاة واعبادة مع الترنم والحمد، هو حرم منها كلها، وهو يتوق إليها بشوق، فيقول: "كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ.عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟ (مز 42: 1، 2).
وهو نفس العطش الذي عبر عنه كاتب مزمور 63 بالقول: "يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ،لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ. كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ. شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ."
الحنين إلى الماضي هي هي نفس المشاعر التي حرمنا منها عندما أغلقت الكنائس، الكاتب وهو في الخارج ينظر إلى الأيام التي كان يتمتع فيها بشركة العبادة مع الأخرين لله. وعندما يحرم من كل هذا يكتئب. العبادة تفرح وتسعد قلب الإنسان فالعلاقة مع الله هي أساس الحياة.
البعد الثاني: الحاضر الألم والمعاناة
لماذا تنحني النفس؟ ولماذا تئن؟ حسب خبرتنا البشرية نجد أن هناك أمور كثيرة تجعل نفس الإنسان تنحني، وهو تعبير يدل على الحالة المعنوية المعوجة عند الإنسان فلا يعيش حياة الاستقامة. وعندما يئن الإنسان فهو يواجه شيئًا صعبًا لا يستطبع احتماله. توجد عدة أمور جعلت نفس الإنسان تئن وتنحني، وهي:
1- الحرمان: الحرمان من الشركةمع الله في روح الجماعة المتعبدة لله، جمال الماضي أنهار على قسوة الحاضر. "كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ.عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟ (مز 42: 1، 2).
2- السخرية والتهكم: عاني كاتب المزمور من السخرية والتهكم والتنمر ، وعبَّر عنها بالقول: "بِسَحْق فِي عِظَامِي عَيَّرَنِي مُضَايِقِيَّ، بِقَوْلِهِمْ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟». (مزمور 42: 9)
3- القمع والاضطهاد: واجه الكاتب قمعًا واضطهادًا ولد في داخله حزنًا، فيقول: "لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُوِّ؟». (مز 42: 9)
4- الرفض: مشاعر الرفض قاسية ومؤلمة "أَنَّكَ أَنْتَ إِلهُ حِصْنِي. لِمَاذَا رَفَضْتَنِي؟ لِمَاذَا أَتَمَشَّى حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُوِّ؟ (مز 43: 2)
5- النسيان: أنْ يشعر الإنسان أنَّه منسي، ذلك أمر صعب ومحبط له، وقد عبر عن ذلك بالقول، "أَقُولُ للهِ صَخْرَتِي: «لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ (مز 42: 9)
6- المجتمع الذي يعيش فيه: المجتمع الذي يعيش فيه مجتمع قاسي، تنحدر في القيم ويعم فيه الفساد، فيقول: "اِقْضِ لِي يَا اَللهُ، وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي مَعَ أُمَّةٍ غَيْرِ رَاحِمَةٍ، وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي" (مز 43: 1).
عانى كاتب المزمور من الحرمان والشخرية واتلكهم، القمع والاضطهاد، الرفض والنسيان، انعدام الرحمة مع الغش والظلم. هذه الأمور جعلت ماتب المزمور ينحني نفسيًا ويئن داخليًا، لسنا بعيدين عن هذه الصورة القاتمة والمشاعر المحبطة، لأننا لا نعش في مجتمع ملائكي، لو عاش الكاتب بيننا لذكر الكثير والكثير. ولكن الكاتب لم يقف عن هذه الصورة القاتمة كثيرًا، ولكن لمع أمام عينه الرجاء المرتبط بالإله الحي.
البعد الثالث: المستقبل الفرح والرجاء
برغم الصورة القاتمة والمستقبل الغامض، رغم ضبابية المشهد، وانحناء النفس مع أنين القلبن يوجد أمل يوجد رجاء. لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ ارْتَجِي اللهَ، لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، لأَجْلِ خَلاَصِ وَجْهِهِ. الرجاء يمنح الصبر والثقة في الله تعطي الانتظار، فالله في المواقف الصعبة في الحياة قادر على أن يرفعنا من ظروفنا النفسية والروحية والمضغوطة وظروف الحياة الصعبة من حولنا. النبي حبقوق في العهد القديم ينشد هذه الإنشودة، وهي: فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي." (حبقوق 3: 17- 19).
عندما تكون المرتفعات/الصعوبات فوق الرؤس، من الطبيعي أنَّ النفس تئن وتنحني، ولكن الله يمشينا على مرتفعاتنا وصعوباتنا، وهو المكتوب عنه "اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِينَ، وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ." (مز 145: 14).
نصلي أن يعطينا الله سلامة وراحة في ظل الظروف الصعبة التي نمر بها، ويحمينا من إنحناء النفس وأنين القلب، ويملأ الله قلوبنا بالرجاء والأمل في مستقبل أكثر أمانًا وإشراقًا، ويثب هذا الرجاء فينا "أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ." (1 كو 13: 13).
في مشاعرنا المختلطة نؤكد على الرجاء في الله الحي منبع الرجاء، وذلك أهم من التركيز على ما يقلق الإنسان، فالحوار مع النفس يقود للحوار مع الله، والله قادر على أن يمشينا على مرتفاعتنا وصعوباتنا وما أكثرها.