رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المجددون وفلسفة الحوار وعقلانية التثاقف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على الرغم من أصالة مصطلح الحوار في ميدان الفلسفة Philosophy of dialogue إلا إننا لا نجد له أثرًا في معظم معاجمنا الفلسفية، وعلى العكس من ذلك نجد عشرات الأبحاث والمقالات تتحدث عن الحوار باعتباره آلية التواصل بين البشر والنهج المتبع في المناظرات والمثاقفات، والضرب الذي انتحاه كبار الفلاسفة، مثل: سقراط والسفسطائيين وأفلاطون، بوذا وكونفوشيوس، أوغسطين وأنسلم وتوما الإكويني، بيرون والشكاك، برتراند راسل وهوايتهد ورينان، وغيرهم، لطرح خطاباتهم ومراجعة المفاهيم الراسخة في الأذهان والمؤثرة في العقل الجمعي على مر العصور. ومن أشهر الدراسات المعاصرة دراستي: باربرا جين، وستيفن فايف عن فلسفة الحوار عند مارتن بوبر، وكتاب (فلسفة الحوار) ليورجن هابرماس. 
وقد اختلف الباحثون فيما بينهم حول تصنيف وتقسيم الحوارات: ففرق بعضهم بين الحوارات التعليمية والمناقشات التوجيهية من جهة، والجدل والتناظر والتثاقف والتصاول والمعارك الفكرية من جهة أخرى، في حين يرى البعض أن كل الحوارات الفلسفية لا تخلو من المسحة النقدية التي تحمل الرأي والرأي الآخر حول مسألة ما أو فض نزاع على إثبات ادعاء أو نفيه أو مقابلة بين وجهتي نظر أو مذهبين أو منهجين. 
وهناك من ربط بين عملية التفكير والحوار، مبينا أن الأفكار والتصورات والأنساق والنظريات لم تكن سوى نتاج مثمر لحديث الأنا مع ذاتها، ثم تنتقل إلى الأخرين فتتبادل الآراء وتتناكح الأفكار، وذلك خلال الأحاديث النقدية والدوائر البحثية والمؤتمرات العلمية، ذلك فضلاً عن التناظر والجدل حول الموضوعات المثارة بين الفلاسفة والمتفلسفين. 
وتشير العديد من الدراسات المعاصرة إلى أن هناك حوارات روحية وأخرى رمزية إشارية لا تقل في جدتها وعمق إثمارها من هاتيك التي تتخذ من الألفاظ والمصطلحات وعاءً لحمل الرؤى والتعبير عن المفاهيم. ويرى معظم التربويين أن أسلوب التحاور في إلقاء المعارف وتوجيه الأذهان هو الأفضل في شتى مراحل التعليم والتدريب والتوعية والتثقيف.
وقد انتهج قادة الرأي في الفكر العربي الحديث فلسفة الحوار، ويبدو ذلك في خطاباتهم الإصلاحية ومجالسهم الأدبية ومنتدياتهم الثقافية، ذلك فضلاً عن المناظرات التي كانوا يعقدونها حول القضايا التي تهم الرأي العام في شتى أمور الحياة لتعويد العقل الجمعي على ضرورة إعمال العقل في كل ما يُطرح أمامهم من أفكار وعوائد ونظريات ورؤى، وإقناع شبيبة المثقفين بأن الحقيقة لا تُطلب من مصدر واحد وأن النقد هو البوابة الحقيقية للاستيعاب ثم الإبداع. 
وقد استفاد النهضويون العرب المحدثون من تراثهم العقدي واللغوي والأدبي والفقهي والفلسفي الشاغل بمئات المحاورات والمناظرات والمصاولات والمجادلات الأدبية والكلامية والعلمية. وقد تأثروا أيضًا بنهوجهم في دقة النقد وموضوعية الحوار وآداب الاختلاف ولاسيما في المصنفات التي وضعوها للرد على خصومهم. ناهيك عن استيعابهم لحجية التحاور من جهه واخلاقيات التثاقف ٍمن جهة أخرى تلك التي وردت في الكتابات المقدسه (في العهدين القديم والجديد والقران والسنه وما روي من أخبار العرب في الجاهلية) وقد حفل القرن التاسع عشر الميلادي بعشرات المساجلات الفكرية بين قادة الرأي في مصر والشام، وفلاسفة الغرب وساستهم وأدباءهم، نذكر منها: كتاب رفاعة الطهطاوي (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز) الذي كان من بين أهدافه الرد على الصورة المشوهة التي رسمها الكتاب الغربيون الذين اضطلعوا بالتأليف عن الإسلام، وسيما مسرحية (محمد) للفيلسوف الفرنسي فولتير التي شغلت بالهجوم على الإسلام وعلى الرسول وصحابته، والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في مؤلفه الضخم (روح الشرائع) حيث ادعى أن الاستبداد صفة ملازمة للدين الإسلامي، والجدير بالإشارة أن هذا الكتاب الذي ظهر عام 1874م يعد أول كتاب في بابه في العصر الحديث فلم يسبقه في كتب السيرة المتأخرة سوى كتاب (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع) للمؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. وكتاب جمال الدين الأفغاني (الرد على الدهريين) ورسالته في الرد على رينان. وكتاب محمد عبده (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) الذي رد فيه على فرح أنطون ورينان أيضا. وكتاب قاسم أمين (المصريون) دفاعا عن الإسلام والمسلمين، الذي رد فيه على الكاتب الفرنسي دوق داركور. وكتاب عبد العزيز جاويش (الإسلام دين الفطرة والحرية) الذي قام فيه بالرد على الأفهام السقيمة والتأويلات الباطلة التي علقت بالإسلام ومصادره. وكتاب المهندس علي يوسف (دين الإسلام والعلم) الذي قام فيه بتعريب رد الكاتب الفرنسي المسيو (مسمر) على الخطبة التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي رينان أحد أعضاء جمعية المعارف بفرنسا. وكتاب مصطفى الغلاييني (الإسلام روح المدنية) ردا على كتاب (مصر الحديثة) للورد كرومر الذي انتقد فيه الأخير الإسلام زاعما أنه دين مناف للمدنية وغير صالح إلا للزمن والمحيط الثقافي الذي وُجد فيهما. ذلك فضلا عن مئات المقالات التي كتبها أعلام الفكر العربي الحديث للرد على افتراءات المتعصبين من المستشرقين ضد الإسلام والحضارة العربية من جهة، والتحاور مع أندادهم من الكتاب العرب حول قضايا التراث والتجديد والوعي والحرية والإصلاح وما أثارته من مسائل لإعادة تشكيل العقل العربي وتقويم وغربلة عوائده ومعارفه وعقائده من جهة أخرى. وقد حفلت الدوريات العربية مثل مجلة المشرق، المقتطف، المؤيد، الجريدة، الهلال، السياسة الأسبوعية، الجديد، الإمام، السفور، العصور، الرسالة، الثقافة، بمئات المساجلات حول قضية السفور والحجاب والقبعة والطربوش، والثقافة الشرقية والحضارة الغربية، والإيمان والإلحاد، والوطنية والهوية الدينية، والكوكبة أو العولمة، وحرية المرأة والبغاء، والتطرف في الديانتين المسيحية والإسلام، ومكانة العقل في الفلسفة الإسلامية، والموت وخلود الروح، والجن والعفاريت وتناسخ الأرواح، وخطر الفلسفات المادية على العقائد السماوية، والفن للفن، والفن من أجل المجتمع، والفن القصصي، والقصص القرآني، والأسفار المقدسة وتأثرها بالقصص الأسطوري، والأنبياء والفلاسفة، والديموقراطية والديكتاتورية، والجمهورية والملكية، وأسباب انحطاط المسلمين وتقدم الغرب، وسر تقدم الأمم، والماسونية والصهيونية، وغيرها من الموضوعات، الأمر الذي أثرى الحياة الثقافية العربية وكان من أهم التدريبات العملية على التفكير الناقد وحرية البوح وفن الجدل والتناظر. ناهيك عن عشرات الكتب التي وضعها المثقفون العرب عن السيرة المحمدية، تلك التي تضمنت ردودًا على المشككين في نبوته صلى الله عليه وسلم، والطاعنين في شخصه وتعاليمه وحكمة رسالته، ذلك فضلا عن الكتابات التي أثارت جدلا كبيرا وكشفت عن اتجاهات ومذاهب المثقفين العرب مثل: كتاب (المرأة الجديدة) لقاسم أمين، كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، كتاب (لماذا أنا ملحد) لإسماعيل أدهم، تلك المؤلفات التي انقسمت آراء المثقفين العرب النقدية حول ما تحويه من أفكار إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه محافظ رجعي، واتجاه محافظ مستنير، واتجاه علماني مستغرب. 
ولا يفوتنا في هذا المقام ذكر الأبحاث العلمية القيمة التي وضعها مصطفى عبد الرازق وإبراهيم ذكي خورشيد وعبد الحميد يونس وغيرهم من الذين اضطلعوا بترجمة دائرة المعارف الإسلامية عن الفرنسية عام 1933م -التي أصدرها أئمة المستشرقين في العالم تحت رعاية الاتحاد الدولي للمجامع العلمية- والتعقيب على ما جاء فيها من معارف.
وللحديث بقية