سادت أوهام كثيرة هذه الأيام نتيجة لانتشار فيروس كورونا، أبرزها اعتقاد الإنسان أن «الموت» قد تخفى على هيئة فيروس أُطْلِق عليه اسم «كورونا» Covid- ١٩، وإنه إذا قُدِّر للمرء الإفلات من الإصابة بهذا الفيروس القاتل، فسوف يُكْتَب له الخلود أبد الدهر. وكأن لا سبب للموت سوى الإصابة بذلك الفيروس اللعين. من هنا ندرك سر حرص الناس على الانزواء في المنازل وارتداء الكمامات، والإحجام عن الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، وحظر اللقاءات والتجمعات... إلخ.
إنني لا أناقش هنا جدوى أو عدم جدوى مثل تلك الإجراءات الصحية والتدابير الطبية التي يحرص على اتخاذها الأفراد والحكومات. لا شأن لي بما إذا كانت هذه الإجراءات ضرورية أم غير كافية لمكافحة الفيروس والقضاء عليه؟ وما إذا كان ينبغي الاستمرار في اتخاذها أو التوقف عنها؟ وهل هى مثمرة حقًا أم لا جَدْوَى منها؟ لا شأن لي بكل هذا، لأنها جميعًا أمور طبية تخرج عن دائرة اختصاصي. إن ما يهمني في هذا الصدد- بحكم اشتغالي بالفلسفة- هو تأمل السلوك الإنساني تجاه «الموت». لماذا نخشى الموت؟
أليس «الموت علينا حق» كما يتردد على لسان كل إنسان؟ ألسنا مؤمنين بأنه أَيْنَمَا نكُونُ يُدْرِكْنا الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ؟
هذه ليست دعوة للاستهانة بخطورة الإصابة بفيروس كورونا والاستهتار به. كما أنه ليس حديثًا من جانبنا لتفسير جائحة انتشار هذا الفيروس تفسيرًا غيبيًا بوصفه غضبًا من الله.
إنني لا أنظر إلى الأمر على هذا النحو، وإنما أسعى لفحص تصورات الإنسان عن «الموت»، ولماذا حرصه الدائم على الفرار من الموت؟ مع يقينه بأن الموت قدر محتوم!! هل في ظل سيطرة فيروس كورونا وهيمنته على العالَم توقف الموت الناجم عن أسباب أخرى غير الإصابة بهذا الفيروس؟ ألم يعد ممكنًا أن يموت أحد - لا بسبب كورونا- وإنما بهبوط مفاجئ في الدورة الدموية أو بسبب جلطة في شرايين القلب أو المخ أو بسبب مرض السرطان أو بسبب حادث تصادم سيارة وانقلابها، أو سقوط طائرة أو غير ذلك من حوادث؟ وهل سيختفي الموت من دنيانا بمجرد النجاح في محاصرة الفيروس والقضاء عليه نهائيًا؟
لماذا إذن الفزع من كورونا وكأنه السبب الوحيد واليتيم للموت؟! ولماذا هذه الرهبة – بصفة عامة - من الموت؟ هل علمنا حقيقة أمره حتى نخاف منه؟ هل عاد إلى الحياة من سبق أن مات وحكى لنا بعضًا مما رأى وشاهد، وفزعنا من هول تجربة ذلك «الميت» الذي عاد وبشاعة ما شاهد، لذلك نرتعب ونرتجف خوفًا وهلعًا من الموت؟ لماذ نخشى مجهولًا لا نعلم عنه شيئًا؟ هل لمجرد أنه مجهول؟ وهل كل مجهول مخيف إلى هذا الحد؟
في تجربة الموت يشعر المرء بوجوده الفردى، لأن الفرد يموت وحده، ولا يمكن لأحد من الناس أن يحمل عن غيره عبء الموت، أو أن ينوب عنه فيه. فلا أحد يموت بدلًا من أحد. ولما كان الموت يقف بالمرصاد لكل حى، فإن الإنسان يعى على مستوى الإدراك العقلى أن «الموت علينا حق»، ورغم هذا الإدراك فإن المرء على مستوى الشعور والوجدان لا يتصور موته على نحو واضح. فأنا على يقين أن «فلان مات»، و«فلانة ماتت»، وأن «هو مات»، و«هى ماتت». إن الذين يموتون هم «الآخرون»، لكن لا توجد سابقة واحدة تقول «أنا مات»، وبالتالى لا أتصور موتى. كيف لى أن أتصورنى ميتًا؟! كيف يحدث هذا؟ هل أنتهى أنا أيضًا تمامًا وفجأةً، كما انتهى ذلك الإنسان الممدد في النعش أمامى استعدادًا لدفنه في تلك الحفرة المظلمة (القبر)؟!
الموت هو أمر كلى وعام يصيب كل أشكال الحياة، أما إذا نظرت إليه نظرة ذاتية، فلا أتصور موتى أنا.. أنا الذى أفيض حياة وحيوية.. أنا الذى تتأجج بداخلى الشهوات والرغبات.. أنا الذى تتصارع بداخلى الأفكار والإرادات.. «أنا مات» كيف أتصور حدوث ذلك؟!
إن الديانات السماوية منها والوضعية على السواء، والمذاهب الفلسفية والفكرية جميعها تأسس أغلبها استنادًا إلى فكرة «الموت»، لدرجة يمكن معها القول: إنه لولا وجود «الموت» ما كان لمعظم الأديان أن توجد!!
تحدثت الأديان- كل الأديان- عن معنى الموت ومغزاه ودلالته، والحكمة من وجوده، وما الذي يحدث بعد الموت، جحيم أم نعيم؟! وكذلك تزخر الكتب السماوية بتفاصيل كثيرة عن الحياة بعد الموت. ورغم ذلك ظل الإنسان يستشعر غموض الموت كظاهرة والتباسها. ويحاول الإنسان دومًا، ومنذ فجر التاريخ، الاستعانة بخياله لنسج تصورات بعضها مفرح والآخر مفزع عن الحياة بعد الموت. يكفي الاطلاع على ما تركه لنا المصريون القدماء وغيرهم من تراث يتعلق بطقوس دفن الموتى، ورحلة الإنسان من العالَم السفلي إلى العالَم العلوي.
إن حديثي هنا ليس دعوة للاستهانة بمخاطر فيروس كورونا، وإنما أسعى لأن نتحلي بالجسارة في مواجهة المخاطر التي قد تفضي إلى الموت، فارق كبير بين الاستهانة بالمخاطر والاستهتار في مواجهتها، وبين الثبات ورباطة الجأش في التصدي لها. فرق كبير بين الشجاعة والتهور، كما أن الفارق كبير بين الجُبن وإعمال العقل. فالشجاعة كما قال الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو هى «وسط بين رذيلتين، إنها وسط الجُبن والتهور».