الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

شـــــواطئ.. الأدب والحق في الموت (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إضافة إلى الأسئلة الثلاثة التي تطرحها الذات الحديثة كما صاغها كانط: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب على أن أفعل؟ ماذا يحق لي أن آمل؟ علينا أن نطرح سؤالا رابعًا وهو ما سيكون أول سؤال يثيره المثقف ألا وهو ما يمكنني كتابته؟. إن بديهية الحداثة تكمن في أنه لا يمكن قول كل شيء، أو بالأحرى لا يمكن قول الجديد والأشد تطرفا إلا بشرط التخلي عن الكلية وتدميرها. بديهية ثابتة – شرط مستقبلها التقليدي – استطاعت في أوج تاريخها أن تأخذ أشكالا إرهابية. ذلك الإرهاب في الأدب الذي شارك فيه رولان بارت والذي صار في بعض الأوقات من مؤيديه الكثر تصميمًا. وفى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، عندما قام بتغيير جذري لرحلته عن طريق استخدامه فكرة المتعة والكتابة بصيغة أنا في شكل روائي أو باستخدام بعض عناصر السيرة الذاتية، لم يكن ضد الحداثة أو ينتمي لمرحلة ما بعد الحداثة. من هنا تأتى أهمية كتاب رولان بارت: "الأدب والحق في الموت"، من تأليف إريك مارتي أستاذ الأدب المعاصر في جامعة باريس 7، والذي نقلته من الفرنسية إلى العربية نسرين شكري، والصادر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
من بين كل الحداثيين، بارت سيصير الوحيد الذي تأكد بشكل جذري من عنف هذه النزعة الشكلية التي ربما كانت نفاقا حيث إنه بفضل القانون المصاحب للأدب، على التعزية الزائفة للعقل. بارت هو الوحيد الذي قبل أن يدفع الثمن، الوحيد الذي وضع المعيار الحداثى تحت اختبار حدث سيؤثر فيه بشكل متواصل، وهو الحداد، موت أمه. الشكل ثمين، هذا ما قاله بارت نقلا عن فاليرى. نعم، إنه يساوى ثمنًا غاليًا إذا ما تم اختباره بحدث أدبي مدمر. تلك اللفتة التي بدأها في 26 من أكتوبر 1977، بعد وفاة أمه، منخرطًا في مشروع غريب أسماه بنفسه "يوميات الحداد".
اليوميات – كشكل أدبي – ستصبح بالنسبة لبارت مسألة مهمة، مشكلة حقيقية، يمكن القول: إنه إغواء يجب مقاومته. مشكلة فكرية إلى جانب كونها مؤثرة في ممارسته الشخصية. مشكلة متروكة معلقة تماما في نص لاحق – كتب تحديدًا وقتما اختتم يوميات الحداد في خريف 1979 – عنوان آخر له دلالة، "مداولة" يبدأ بهذه الجملة الملتوية: "يقترح نقد اليوميات بوصفة شكلا مضى، متأثرًا بالذاتية. ولإنقاذ هذا الشكل يلزم ممارسة مفرطة: "أمكنني إنقاذ اليوميات بشرط وحيد هو أن أعمل فيه حتى الموت، تمامًا مثل نص شبة مستحيل، وقد تظهر اليوميات في نهايته مختلفة عن اليوميات كنوع أدبي".
كلمة نص تأتى هنا بنوع من الإصرار ذي الدلالة، وهو إدراج مشروع الكتابة في حقل الحداثة، لكنة حقل مدمر، وخاصة بنص يميزه المستحيل الذي يحيطه المستبعد. عند تعبير "العمل حتى الموت" الذي يبدو غريبا خاصة إذا تذكرنا أن الهدف من العمل الأدبي الذي يخرج إلى النور هو الحداد – الموت – عند هذا التعبير يمكن تخمين كتابة مشطوبة حتى ما لانهاية، تماما مثل لوحة فرنهوفر الذي تحدث عنها بلزاك في كتابة "التحفة الفنية المجهولة".
كتابة المذكرات، كان لها في تلك الفترة، صيغتان ملموستان، كلتاهما نشرت بعد الوفاة الأولى، الموجزة جدًا – خمسة عشر مدخلا – والتي تحمل عنوان "أمسيات باريسية" ونشرها فرانسوا فال في مجلد قصير عنوانه "أحداث". نص ساخر لأبعد مدى كما يشهد على ذلك المقطع المقتبس عن شوبنهاور والذي يأتي من عالم الأموات وعلى الأقل عتبة الموت. 
التعبير الثاني لليوميات المستحيلة، التي يشير إليها بارت، هي ذلك التكوين الآخر، يوميات الحداد، والذي يأخذ أهمية عن الأول لأنه يتكون من ثلاثمائة وريقة يعود تاريخها من 26 من أكتوبر 1977 إلى 5 من سبتمبر 1979، أي انه ينتهي يومين قبيل أن يتم كتابة آخر ورقة من "أمسيات باريس". 
كان من الواجب أن تأخذ هاتان المجموعتان مكانهما في المشروع الكبير الذي فكر فيه بارت في الفترة ما بين صيف إلى شتاء عام 1979 والذي كتب خلالها ثماني مخطوطات لمشروع عمل أعطاه فيما بعد عنوان "فيتا نوفا" (حياة جديدة). الخاصية الثانية لهذين النصين كونهما نشرا بعد وفاته. ولكن ما هو النص أو المذكرات التي تنشر بعد الوفاة؟ رأينا بارت بشخصه حدد لهذين النصين مكانًا محددًا في الكتاب القادم "فيتا نوفا". لا يمكن القول: إن هذين العملين نشرا بعد وفاته إلا من خلال الوفاة الطارئة، والمفاجئة التي أودت بحياة بارت عام 1980 ومنعته أن يواصل مجهوده. 
غير أنى لا أؤمن بعوالم متعددة، لا أعتقد أن هناك عالما بلا حوادث، بعالم كان بارت ليعيش فيه وكان ليكتب فيتا نوفا. وإدراج هذين العملين في إطار الكتاب القادم لا تؤثر بأي شكل في طبيعتهم التي تنتمي بشكل لا يمكن الرجوع فيه إلى قطاع ما بعد الموت في العمل بل تنتمي إلى الجزء الذي ظل محجوبا عنها. الشيء الوحيد الذي تشير إليه الملاحظتان المدونتان في فيتا نوفا هو انه لم يكن هناك تزوير في نشرهما، ولا يتعارض نشرهما مع رغبة الكاتب المتوفى، وعلى النقيض ما تم نشره في داخله شكلا من أشكال الإخلاص. 
ما هو إذن العمل الذى ينشر بعد الوفاة؟ سنقول بمنتهى البساطة: إنه العمل الذي يجعل العمل والأدب والمساحة أقرب إلى الموت، وهذا من خلال التقارب مقلق للغاية، بحيث يفتح نشره أحيانًا جدالًا، تمامًا كما كان الحال عند نشر يوميات الحداد، فضيحة تعنى بالنسبة للأدب رفض الحق في الموت. 
هذه العبارة "الكتابة أقل فأقل" هي على الرغم من ذلك نوع من الكتابة. بل يمكننا القول: إن الكتابة أقل فأقل هي الكتابة بذاتها، إذا اتفقنا مع بارت أن دور الكاتب ليس – كالكليشهات الأدبية – كتابة ما لا يمكن التعبير عنه وإنما على العكس التعبير عن ما يمكن التعبير عنه. ليس على الكاتب أن ينزع كلمة من الصمت، بل عليه أن يخرس حتى الصمم التام ما لا يتوقف عن الكلام، أن يصنع ضوضاء، أن يثرثر في داخلة ومن حوله هو مجمل اللغة التي تعمل من تلقاء ذاتها. 
وللحديث بقية.