بدّدتْ جائحةُ كورونا شعورنَا بأنَّنا نعيشُ في كَنَفِ عالَم آمنٍ ومستقر، إذْ تبينَ لنا، على نحوٍ غير مسبوق، أنَّ أمورَ حياتِنا قدْ تنقلبُ رأسًا على عَقِبٍ بينَ ليلةٍ وضحاها؛ فقد يتبدلُ كلُّ شيءٍ ويتغيرُ في طَرْفَةِ عينٍ، لا على مستوى الحياة الشخصية للفرد فحسب، بل على مستوى العالَم بأسره، بحيثُ لا تنجو من هذا التغيرِ المُبَاغِتِ أيةُ بقعةٍ من بِقَاعِ الأرض؛ قد يفكر المرءُ أنْ يلوذ بها. إنَّ القادرين والأثرياء وغيرهم من البشر، قد يفرونَ من أوطانِهم إذا نشبتْ صراعاتٌ دمويةٌ، أو حلَّت كوارث طبيعية، ويلجأون للعيش في مجتمعاتٍ مستقرةٍ وآمنةٍ لا تطالها مثل تلك الأخطار. غيرَ أنَّ الانتشار الواسع لفيروس كورونا القاتل، نفى هذه الاستثناءات، وصارتِ الكرةُ الأرضية بكلِّ جنباتِها موبوءةً بهذا الفيروس. لقد كشفتْ هذه الجائحةُ أنه قد تنهار كلُّ الترتيباتِ التي قد نكونُ أنفقنا سنوات كثيرة، وأموالاً طائلةً من أجلِ أنْ نحققَ بها لأنفسنا حياةً آمنةً ومزدهرة؛ سواءً على مستوى الفرد أوالمجتمع.
مِنَ المرجَّحِ أنَّ الانتشارَ الواسعَ لذلك الفيروس «كورونا» سيؤدي إلى زعزعةِ مصداقيةِ «العقل القطعي» والشَّكِ في سلامةِ أحكامه، وما نعنيه بـ«العقل القطعي»، ويُسَمَّى أيضًا «العقل الدوجماطيقى»dogmatic ، هو العقلُ الذي يَرى أصحابُهُ أنَّ المعرفةَ الإنسانيةَ لا تَقِفُ عند حدٍ، وأنَّ العقلَ البشري قادرٌ على إدراكِ الأشياء، والوصولِ إلى اليقينِ المطلق. لقد اعتدنا منذُ نعومةِ أظافرنا على نمطٍ من التفكير القطعي، الذي يتسمُ بالنمطيةِ والرتابة، وإغفالِ الطفرات، ونبذِ الشَّكِ والارتياب، نمطٍ منَ التفكيرِ يستندُ إلى اليقين المطلق بأنَّ «الغائيةَ» Teleology تسود الكونَ، وأنَّ كلَّ موجودٍ من الموجوداتِ في الكون له غايةٌ وهدف، يسعى لتحقيقهما، وأنَّ الليلَ يعقبُ النهارَ، والنهارَ يعقبُ الليلَ، والشمسَ تشرقُ من المشرق، وتغرب غربًا. لقد جُبِلَتْ عقولُنا على الإيمان الجازم «باطراد حوادث الطبيعة»The Uniformity of Nature ، والاعتقاد باطراد حوادث الطبيعة معناه أنَّ كلَّ ما حدثَ أو سوف يحدثُ هو حالةٌ لقانونٍ عامٍ لا يقبلُ استثناءً. فإذا كانت الشمسُ تشرقُ كلَّ صباحٍ منذَ ملايين السنين، فإنَّ شروقَها سوف يطرد غدًا وبعدَ غدٍ وإلى ما شاء الله.
غالبًا ما يحاولُ المرءُ تجنبَ التفكيرَ في الاحتمالات المناهضة لما اعتاد عليه، لأن التفكير في احتمالِ حدوثِ شيءٍ مخالفٍ لما اعتدنا عليه، يثيرُ لدينا قلقًا قد يصلُ بنا إلى حدِ الفزع، لكن بعدَ انتشارِ فيروس كورونا باتَ مِنَ الضَّروري أنْ نتوقعَ ما هو غير متوقَّعٍ. لقد فُوجِئَتْ دولُ العالمِ بانتشارِ الفيروس على نطاق واسع، فأُسْقِطَ في يَدِ الجميع؛ فالدول الكبري كالولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وسائرِ دولِ العالَم لمْ تكنْ جاهزةً للتصدي لهذا الوباء القاتل، لأنها لم تكنْ تتوقع أنَّ الضربةَ ستأتي من هذه الجهة، إنَّ دول العالَم- الكبيرة منها والصغيرة- كانت مهيأةً للتصدي لأي عدوان، ومواجهة أيةِ أخطارٍ قوامُها الحديدُ والنار، كالاعتداءات المسلحة بأسلحة تقليدية أو نووية، ولم يخطرْ على البالِ أنَّ الدَّمارَ سوف يأتي من مستصغر الكائنات (من فيروس)، كانت الدول- حتى الفقيرة منها- تقوم بتكديسِ شتَّى أنواع الأسلحة، وحرصتْ على تجهيزِ الجيوش وإعداد مقاتلين أكْفَاء. وأهملتْ تمامًا إعدادَ أطقمٍ طبية، وتجهيزِ المستشفيات، لأنَّها لم تتوقع ما هو غير متوقع.
إنَّ التوقعَ السَّاذج بأنَّ وقائعَ الحياةِ تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ دونَ تغيُّر، قد تنجم عنه نتائج كارثية، لقد أدرك «برتراند رسل» Russell Bertrand خطورة النتائج المترتبة على التوقعات الساذجة، وذلك من خلالِ تأملاته لحالةِ الدَّجاج: كلنا شاهدنا منظر الدجاج وهو يُقبِل فرحًا حين قدوم ربَّةِ المنزل كي تقدمَ له الماءَ والغذاء، إنه يفعل ذلك دومًا دون انقطاع، لكن يغيبُ عن ذهنِ الدَّجاج- إنْ كان للدجاج ذهن- أنَّ ربةَ المنزلِ أتَتِ اليوم لا لتقديم الماءِ والغذاء وإنما لتقتنصَ بعضَ الدجاجِ لذبحه، وتقديمه غذاءً للضيوف. إنَّ التوقعَ الساذج بأن الحياة تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ غير قابلة للتغير أودَى بحياة الدجاج، وعرَّضها للذبح. وما يَصْدُقُ على الدجاجِ يَصْدُقُ على أصحابِ العقل القطعي الذين يؤمنون إيمانًا راسخًا بأنَّ الكونَ يخضعُ لنظامٍ ثابتٍ لا يتغير. إنَّ تأملات «رسل» لحالة الدجاج أدَّتْ به إلي نتيجة مؤداها إنَّه ينبغي علينا أنْ نسعي للوصول إلى «الاحتمال» بدلاً من «اليقين»، فيقول: «لأننا نعلم أنه قد يحدث تخلف أحياناً بالرغم من تكرار الحدوث المتعاقب، كما في حالة الدجاج الذي ذُبِحَ. إذن فإن ما ينبغي أن نبحث عنه هو الاحتمال فقط» . (Russell, B. : The Problems of Philosophy, p.102)
إنَّ الانتشاء بما حققته البشرية في ميدان العلم والتكنولوجيا جعلَ الغرورَ البشري يسيطرُ على الأفراد والدول، تلك التي ظنَّت أنها وضعت خططًا لمواجهة أيةِ أحداث، لكن «كورونا» كشفَ زيفِ التفوق البشري، وعرَّى الطغيانَ الذي تمارسه بعضُ القُوَى العالمية، وكشفَ أنَّ هذه الغطرسةِ وذلك الطغيان إنما هما دليلُ ضعفٍ لا دليل قوة. لقد جاء وباء «كورونا» بمثابةِ إنذارٍ أولي وضعَ الإنسانَ المَزْهُوٌّ بإنجازاته وحضارته وقوته في حجمه الحقيقي، وحوّلَ ذلك الكائن البشري إلى كائنٍ ضعيفٍ يستطيع فيروس مجهري أنْ يهدد وجوده ويعرضه للفناء. نجح الفيروس في تحويل الإنسان إلى حيوان مهدد بالانقراض في أية لحظة.
الأحكامَ المتعلقةِ بالمستقبل ينبغي أن لا يقال بها إلا على سبيل «الاحتمال»، لأنَّ كلَّ ما يتعلق بما سيحدث يجب أن يقترن دومًا بمعنى «الرهان» wager، فنحن نراهن على شروق الشمس غدًا، وعلى وجود طعام نتغذى به غدًا، وعلى استمرار صلاحية القوانين الطبيعية غدًا. فالحكم المتعلق بالمستقبل لا يمكنُ أنْ يصدرَ مقترنًا بإدعاء أنه صحيح، إذ إننا نستطيع أنْ نتصور دائمًا أنَّ العكس هو الذى سيحدث، وليس هناك ما يضمن لنا أنَّ الأحداث المقبلة سوف تأتي على نحو ما نتوقع. إننا جميعًا، على حدِ تعبير «ريشنباخ» Hans Reichenbach: «مقامرون: رجل العلم، ورجل الأعمال، والرجل الذى يلقى بزهر النرد. نحن كالأخير نعرف قيمة مراهناتنا، والعالِم أشبه بالمقامر لأنه لا يستطيع أن ينبئنا إلا بأفضل ترجيحاته، ولكنه لا يعرف مقدمًا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق، ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذى يجلس أمام المائدة الخضراء، لأنَّ مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذى يسعى إليه أسمى بكثير وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية. يبدو أنه ليس فى وسعنا أنْ نتجنب المراهنة، إذْ ليس ثَمَّة طريق آخر لحساب الحوادث المقبلة». ( Reichenbach, H. : Experience and Prediction, P. 307).