الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

المشروعات الفكرية العربية وقضية التخلف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ازدهرت مشاريع فكرية في المغرب والمشرق العربيين على السواء. ففي المغرب هناك مشروع محمد عزيز الحبابي، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي، وعلي أومليل، وغيرهم. وفي المشرق هناك مشروع زكي نجيب محمود، وعثمان أمين، وأنور عبد الملك، وحسن حنفي، وفؤاد زكريا من مصر، والطيب تيزيني، وحسين مروة، وصادق جلال العظم، وحسن صعب، وجورج طرابيشي من الشام وغيرهم. كانت هذه المشاريع جميعها تستهدف البحث في علة تخلفنا، وسبل نهضتنا.
ويُعَد المفكر المغربي محمد عابد الجابري واحدًا ممن قدموا مشروعًا فكريًا مكتملاَ. فقد شخَّص حالة المواطن العربي بدقة وإحكام قائلاً: «القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواءً يفقده استقلاله وحريته. لقد تلقى القارئ العربي، تراثه منذ ميلاده ككلمات ومفاهيم، كلغة وتفكير، كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير، كمعارف وحقائق. كل ذلك بدون نقد وبعيدًا عن الروح النقدية؛ فهو عندما يفكر، يفكر بواسطته ومن خلاله، فيستمد منه رؤاه واستشراقه مما يجعل التفكير هنا عبارة عن تذكر. ولذلك فعندما يقرأ القارئ العربي نصًا من نصوص تراثه يقرأه متذكرًا لا مكتشفًا ولا مستفهمًا. فكل الشعوب تفكر بتراثها. ولكن فرقًا شاسعًا بين من يفكر بتراث ممتد إلى الحاضر ويشكل الحاضر جزءًا منه، تراث متجدد باستمرار للمراجعة والنقد، وبين من يفكر بتراث توقف عن النمو منذ قرون، تراث تفصله عن الحاضر مسافة علمية طويلة». (محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1986، ص 22)
ونحن من جانبنا نرى أننا متخلفون دون عن شعوب الأرض، بسبب أن الطفل العربي، وأكاد أقول- الجنين العربي- منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها عينيه وأذنيه خروجًا إلى الدنيا، وحتى لحظة إغلاقهما دخولاً إلى القبر، طوال تلك المسافة الزمنية تتردد على مسامعه آيات الكتاب المقدس، مصحوبة بتفسيرات مختلفة من الأهل والأقارب ورجالات الدين، وعلى المرء أن يلغي عقله، ويُسَلِّم تسليمًا أعمى بكل ما تقوله التفسيرات المختلفة لتلك الآيات، وإلا سيكون مصيره جهنم وبئس المصير. وما أن يشب عن الطوق هذا العربي حتى يحاط من كل حدب وصوب بصوت زعيم الأمة الملهم أو صورته. إن صوت الزعيم أو صورته يطلان علينا من خلال أبواقه (شاشات التليفزيون وصفحات الصحف)، والويل كل الويل لكل من يحاول أن ينقد أو ينتقد قولاً أو فعلاً لزعيم الأمة الذي يسأل ولا يُسأل. إن على المواطن العربي الصالح أن يقول «نعم»، ويلغي من قاموسه لفظ «لا». ويظل على هذا الحال حتى لحظة إطباق جفنيه عند إدخاله القبر. هذا هو سر تخلفنا بجانب تحالف الدول الاستعمارية الكبرى مع حكامنا المستبدين ودعمهم لهؤلاء الحكام على أن نبقى باستمرار في حالة تخلف، وتغافلهم المتعمد عن حالات القهر والاستبداد التي يمارسها الحكام، رغم تشدق تلك الدول الغربية الكبرى بدفاعها عن الديمقراطية. والأخطر من كل ذلك، هو تربص تلك الدول الاستعمارية الكبرى بأية دولة عربية (أو أية دولة نامية) تسعى لبناء مشروع نهضوي، وما أن تستشعر الدول الاستعمارية الكبرى (بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبتحريض من إسرائيل) أن ثمَّة دولة تسعى لتحقيق مشروع نهضوي، حتى تتحفز تلك الدول الاستعمارية (ومعها إسرائيل) لضربه وإفشاله.
لكل هذه الأسباب نحن متخلفون.
في حين أن الإنسان الغربي قد حصل على حريته وحقه في الحياة بعد نضال طويل منذ الإصلاح الديني الذي استطاع بموجبه الحصول على حرية تفسير الكتاب المقدس ضد احتكار الكنيسة له، وحرية الإيمان ضد العقائد الرسمية، وحرية الصلة بين الإنسان والله ضد توسط رجال الدين. وفي عصر النهضة استطاع الوعي الأوروبي التحرر من التبعية للكنيسة ومن فلسفة أرسطو، والتوجه نحو العقل والطبيعة لتأسيس علم جديد، والتحول من الماضي إلى الحاضر، ومن الإتباع إلى الإبداع.
وتبلور ذلك كله في مقولة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وكان هذا إعلاناً عن نهاية عصر وبداية عصر آخر. مما أدى في نهاية المطاف إلى إعلان جان بول سارتر: «أنا حر إذن أنا موجود».
يقول حسن حنفي: «لم تنجح الليبرالية الغربية في المجتمعات العربية المعاصرة على مدى مائتي عام، لأن هناك جذورًا تاريخية تمنعها وتكمن وراء أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر إثر تراكم طويل عبر ألف عام، فالسلفية تعطي الحاكم أساسًا نظريًا للسلطة المطلقة من التراث الديني الذي تُرَبّى عليه الناس، والذي أصبح صلب العقيدة الدينية. فالله فعّال لما يريد، لا يُسْأل عما يفعل وهم يُسْألون، يسمع ويبصر كل شيء، لا تخفى عليه خافية. ثم يوظف فقهاء السلطان هذه البنية النفسية وينقلونها من الله إلى الحاكم» (حوار المشرق والمغرب، حسن حنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1990، ص 61). أما العقل السلفي فهو قاصرٌ عن إدراك الحكمة من خلق الأشياء ومغزى الأحداث.