المسلمون في حاجة ماسة إلى مراجعة أفكارهم أكثر من أي وقت مضى، ومع مراجعة هذه الأفكار لا بد أن يراجعوا التراث، لا أن يتخلوا عنه ولا أن يقدسوه، وعليهم أيضًا يجددوا تلقيهم لهذا الدين، فكل يأخذ منه ويرد إلا المعصوم وكل حديث يُرد عليه إلا هذا الكتاب، فهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
المسلمون وقعوا في فخاخ شديدة طوال عقود أهمها تسييس الدين عبر حقب زمنية ممتدة، وإعطاء صبغة سياسية للدين حتى في القرون الأولى التي صيغت فيها مفاهيم وأفكار ووضع فيها الفقه الإسلامي وتحددت ملامح الدين على أساسه، وهي ما تمثل نقطة انطلاق وفهم حتى وقتنا الحالي.
في العهدين الأموي والعباسي تم تسييس الدين بما يخدم أجندة الخلفاء الذين تولوا الحكم في هذه الفترة الزمنية، كما أن هاتين الفترتين تعتبران من أهم الفترات التي شكلت الوعي للفهم الإسلامي والتي نسير عليها حتى الآن، غير قادرين على التجديد أو النظر فيما قيل بتهمة أن هؤلاء الفقهاء لا يمكن مراجعتهم وإذا كان هناك بد من تلك المراجعة فيجب أن تكون من خلال آخرين لهم نفس القامة دون أي اعتبار لعلم أو بحث في هذا الشأن، وهو ما شكل الوعي والفهم لهذا الدين.
قضية القضاء والقدر من أهم القضايا التي تم صياغتها في العهد الأموي لهدف يرتبط بتولى حكام وأمراء وخلفاء المسلمين في هذه الحقبة، فالفقهاء أرادوا مع الخلفاء أن يقولوا إن تنصيب الخليفة قضاء من الله وعلى المسلمين أن يقبلوا بهذا القدر، ومن هنا توارث المسلمون مفاهيم الاستسلام وظهرت الأمثلة والحكم التي توارثها المسلمون من عينة "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين".
القضاء حتمًا يقع ولا رد لقضاء الله ولا لقدره ونقاشنا منصب حول الاستسلام والرضوخ والتبعية لغيبة الفشل وإلباسها لباس القدر، فهذا الفهم الخاطئ هو ما جعل المسلمين لعقود طويلة يربطون فشلهم بالقضاء والقدر دون أي محاولة لتغيير هذا الواقع أو التعامل معه، والأزمة ليست في فشل المسلمين وإنما في إلباسه لباس الدين.
نشأ الفقهاء الأربعة ومعهم الإمام جعفر الصادق في العهد العباسي ومنهم أخذ المسلمون سنة وشيعة فقههم ومذهبهم، ففوجئنا بأحد الأئمة الأربعة وهو الإمام الشافعي يصف السنة النبوية بأنها الوحي الثاني، رغم أنه نشأ في عام 770 ميلادية أي بعد قرابة مائتي عام من ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ووفق هذا المفهوم وصل الدين إلينا.
لا يمكن أن يكون هناك دين بدون نبي أو رسول ولا يمكن للمسلم أن يكتفي بالقرآن دون السنة، فهي الشارحة لكثير مما ورد في كتاب الله، ولكن الأخطر أن الفقهاء الذين أتوا بعد الشافعي أو الأئمة التي نشأوا معه اعتبروا مركز الدين الحقيقي في السنة وليس في القرآن الكريم وحول السنة جاءت أقوال الصحابة، ونكرر ليست لدينا مشكلة مع السنة أو أقوال الصحابة ولكن مشكلتنا فيمن نقل مركز الدين من كتاب الله إلى أقوال بعض الصحابة والتابعين على غرار حواريي المسيح عيسى، وهنا بدا تأثير المسيحية واضحًا على الفقهاء المسلمين.
المسيحية تعتمد اعتمادًا أسياسيًا على السيد المسيح، بل السيد المسيح وحواريوه يُشكلون المسيحية ويبدو ذلك واضحًا من الاسم والمعنى والمسيحية هي ترجمة لحياة السيد المسيح وتعاليمه، وهنا تعامل الفقهاء بمبدأ أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق وهو أولى بالاتباع والرفعة والعلو فنقلوا مركز اهتمام الدين من النص المقدس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال أصحابه.
قد يعتقد بعض المزايدين وهم كثر أننا ضد السنة أو أننا نحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الاعتقاد مفهوم ممن تطرفت أفكارهم وأصابها نوع من الجمود والتكلس فبات يوزع الاتهامات يمينًا ويسارًا ظنًا منهم أنهم أصحاب الفهم الصحيح، فضلًا عن إدراكنا أننا نستهدف الجمود الذي أصاب بعض أتباع هذا الدين، وطالما فعلنا ذلك فسوف نقع تحت سيفه وسلطانه وسوف يلجأ البعض إلى تكفيرنا أو الإشارة إلى خطر هذه الأفكار على الدين الذي فهمه هو ويُريد أن يستمر الإنسان في فهمه على هذه الشاكلة دون أي مناقشة أو بحث حتى في سياق وصول هذا الفهم لنا.
كل المسائل الدينية في كتاب الله مفصلة أو مجملة ولكنها في الكتاب، وقد أكمل الرسول لنا شرح كثير من المسائل، فضلًا على أنه الأمين على وصول هذه الآيات للمسلمين قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولذلك كتاب الله هو أول مصادر التشريع وأهمها بل ومصدرها الأساسي والرئيسي دون غيرها، فهو كتاب الله المفصل لكل شيء.
تم صياغة مفاهيم دينية كثيرة في القرن السابع الميلادي من عينة أن المسلمين الطائفة الناجية الوحيدة من واقع الفهم الخاطئ لقوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام"، دون أي اعتبار لقوله تعالى "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" لاحظ هنا أن وصف عقيدة المسيحيين جاء بالملة وليس بالدين.
فالدين فيه الحلال والحرام وفيه عبادة الله والقيم الانسانية الرفيعة ومنه خرجت الملل، ومن هنا قد يكون تعريف الإسلام بأنه الإيمان بالله الواحد والعمل الصالح، ونجد هذا التعريف منصوصا عليه في كتاب الله، فكل الآيات التي تتحدث عن الله وعبادته تصف بعدها عبادة المؤمنين بالمسلمين.. وللحديث بقية.