اهتمت جميع وسائل الاعلام، بترديد ما تعلنه اتحادات ومنظمات النقل الجوي والطيران المدني الاقليمية والعالمية، من أرقام مليارية تمثل خسائر ستتكبدها مستقبلا أو تكبدتها فعلا شركات الطيران. ولا أجد حرجا من استخدام كلمة "الضبابية" التي وجدنا أنفسنا نسير فيها، حيث نردد تلك الأرقام المليارية، دون تحليل أو تمحيص. وزاد الأمر التباسا، أن شركات الطيران قد تلقفت تلك الأرقام المليارية ، واعادت نشرها وترديدها، حتى تضغط على حكومات بلادها، لتقديم أقصى قدر من المساعدات المالية وغيرها. رغم أن الدول لديها موارد محدودة للدعم ، مطلوب توزيعها على كافة القطاعات المتضررة.
وتأتي منظمة "آياتا" على رأس المنظمات الأعلى صوتا والأقوى إعلاما. وتحمل باللغة العربية إسم "الاتحاد الدولي للنقل الجوي" International Air Transport Association [IATA} حيث يتخذ الجميع من أرقامها مرجعا علميا ومن بياناتها أساسا مصدقا لشؤون النقل الجوي.
فإذا علمنا أن المنظمة تشكلت بمدينة هافانا الكوبية في ابريل 1945 من 57 عضوا يمثلون بعض شركات الطيران، ووصل عددهم حاليا الى 290 شركة بعضها شركات طيران منتظم وبعضها شركات طيران غير منتظم من 120 دولة [ العالم به عدة الاف من شركات الطيران الصغيرة والكبيرة، منها 1303 شركة طيران منتظم في 195 دولة] كما أن مصطلح النقل الجوي له دلالات واسعة ويضم جميع مكونات منظومة النقل الجوي مثل [ شركات الطيران والمطارات وشركات الخدمات الجوية والمراقبة الجوية وشركات الصيانة وشركات الأطعمة والخدمات الأرضية والاسواق الحرة ومصانع الطائرات والمحركات والاجهزة وغير ذلك كثير] أي أن مدلول المعنى الصحيح لمنظمة "آياتا" هو {الجمعية الدولية لشركات الطيران} وبالتالي فقصر وتركيز الاهتمام على شركات الطيران فقط، ليس من الأمور العلمية أو المنطقية.
ولا يفوتنا بأن نشير الى أن تلك المنظمة، هي منظمة كبيرة وتمتلك امكانات وخبرات متميزة. لكنها في ذات الوقت تكرس مجهوداتها لخدمة غرضها الأساس وهو الدفاع عن مصالح أعضائها، وبالتالي فالحياد العلمي ليس هدفها، والنأي عن السياسة ليس نهجها. ومن ثم فتلك المنظمة ليست مرجعا محايدا، أو مصدرا متجردا، نستقي منه المعلومات ونأخذها كما هي، بل يجب علينا مراجعتها وتدقيقها وتصحيحها.
ومن ثم نأتي الى بيت القصيد، وهو أن لكل شركة طيران ظروفها وخصائصها وتركيبة تكاليفها وتركيبة ايراداتها، غير متاح تفاصيلها الدقيقة إلا لها، ولأجهزة الدولة المحاسبية والرقابية والضرائبية ذات العلاقة. ولا تستطيع أي جهة من المنظمات والاتحادات المذكورة أن تقدرها بالدقة التي تستطيع الشركة أن تقدرها لذاتها. فهناك شركات طيران مملوكة للدولة وشركات خاصة وشركات مشتركة. وهناك شركات تعمل على خطوط مربحة وأخرى تعمل على خطوط خاسرة. وشركات طائراتها قديمة تستهلك وقودا أكثر وتكاليف صيانة أكثر، وشركات طائراتها حديثه. وشركات مثقلة بالقروض والفوائد وخدمة الدين، وشركات غير مثقلة. وشركات نسبة اجمالي الرواتب الى اجمالي التكاليف أقل من 10% وشركات اجمالي الرواتب فيها يصل الى أكثر من 30% من اجمالي التكاليف. وشركات تستفيد من الانخفاض الحاد في أسعار الوقود، وشركات لن تستفيد لأنها متعاقدة على عقود مستقبلية بأسعار عالية. وشركات تعمل في مطارات رسومها معقولة وأخرى في مطارات رسومها عالية. وشركات معظم تشغيلها في خطوط داخلية، وأخرى معظم تشغيلها في خطوط خارجية. وشركات معظم طائراتها مستأجرة يمكن إعادتها، وشركات كل أو معظم طائراتها مملوكة. والبعض لديها احتياطيات نقدية كافية وأخرى العكس، وشركات لديها سوق شحن جوي كبير لم يتوقف، وأخرى ليس لديها نشاط في الشحن..... وهكذا عشرات الاختلافات بين شركة وأخرى. ومن ثم فشركات الطيران وحكوماتها أدرى بالموقف أكثر من مثل تلك الاتحادات والمنظمات. كما وأن لكل حكومة سياستها المختلفة في إجراءاتها التحفظية بشأن الحظر الكامل أو الجزئي أو عدم الحظر للنشاط.
وبالتالي على أية حكومة أن تدرس ما يأتيها من الاتحادات والمنظمات و شركات الطيران لطلب المساعدات، ولا تأخذه على علاته. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت مجموعة [اير فرانس – كيه ال ام] خسائرها عن الربع الأول لعام 2020 وقدره [815] مليون يورو. ولكن بتفحيص هذا الرقم، نجد انه يحتوى على [455] مليون يورو خسائر ناجمة عن عقود شراء وقود تم توقيعها سابقا بأسعار عالية، وهو أمر ليس له أية علاقة بتداعيات كورونا.
والمعروف أن طبيعة الخسائر وخصائصها في قطاع النقل الجوي أفضل بكثير من مثيلاتها في الفنادق مثلا. فعدم قيام الطائرة برحلة جوية، معناه فقد إيراداتها، لكنه في ذات الوقت معناه توفير تكاليف الوقود ورسوم الهبوط والعبور والخدمات الأرضية وأطعمة الركاب، وتوفير معظم تكاليف الصيانة والتأمين وحركة الركاب ومبيت الأطقم والمحطات وغير ذلك كثير. أما وجود حجرات الفندق فارغة، فلن توفر غير تكاليف تافهة. مع التأكيد على أن هامش الربح في شركات الطيران ضئيل جدا، ومعظمها خاسرة أصلا.
ونخلص من ذلك العرض المختصر، بأن الحكومات أقدر على تقدير خسائر شركات الطيران وتقدير مقدار الدعم اللازم لها. كما أن على الحكومات أن تحاسب الشركات عندما تشرع في مساعدتها.