تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أخيرًا تذكرت مصر أن لها وزير خارجية اسمه محمد كامل عمرو، بعد أن أطل أمس الأول من شرفة عزلته ببيان تقليدي يدين العدوان الإسرائيلي على الشقيقة سوريا.
فقد كاد الجميع ينسى وجود الرجل على رأس إحدى أهم الوزارات؛ بسبب ما يبدو أنها عزلة جبرية فرضها رئيس الإخوان، محمد مرسي، الذي نقل مهام حقيبة الخارجية إلى مساعده عصام الحداد، الذي يجهل الفرق بين “,”الألف وكوز الذرة“,”، في أبجديات السياسة بشكل عام، علاوة على السياسة الخارجية لدولة بحجم مصر، والمؤكد أنها أكبر وأعظم من تنظيمه الآخذ في التضاؤل بسبب ضآلة وضحالة قياداته، بل أفكاره وتصوراته عن العالم.
على أية حال، الجاهل الأحمق فقط هو من لا يدرك قيمة جوهرة امتلكها في غفلة من الزمن؛ لذلك فهو لا يعرف كيف يستثمرها، ولا حتى كيف يتزين بها فيهدر ما تحويه الجوهرة من معان؛ مطفئًا بذلك بريقها، وهذا هو حال عرش مصر عندما أضحى بين يدي جماعة الإخوان المسلمين.
تجنب مرسي وزارة الخارجية بما تحويه من خبرات عميقة ومتراكمة، لا تعمل إلا في اتجاه صالح الدولة المصرية، وفرض عليها وعلى وزيرها، محمد كامل عمرو، عزلة شبه تامة، معتمدًا على الحداد؛ لأن الجماعة تريد صياغة أشكال جديدة للعلاقات المصرية الخارجية، تتناسب مع مصالح التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتسير وفق ترتيباته وحساباته في العلاقة مع الدول.
ولأن حسابات مثل هذه الكيانات السرية والصغيرة قلقة وبراجماتية لأبعد حد، وتلهث دائمًا وراء المصلحة الآنية؛ فقد انعكس هذا -وبوضوح- في أداء مرسي ومعاونه الحداد في أكثر من موقف، وربما كان تسليم أحمد قذاف الدم إلى الحكومة الليبية مقابل 2 مليار دولار، أبرز دليل على الأداء العشوائي والبراجماتي اللاأخلاقي، المناقض لما استقرت عليه أدبيات السياسة الخارجية المصرية في التعامل مع هذا النوع من القضايا.
وبعيدًا عن الإسهاب في الأمثلة على عشوائية الحداد وانعدام خبرته، يطرح تصدير وزير الخارجية، محمد كامل عمرو، في مشهد إدانة العدوان الإسرائيلي على سوريا، بدلاً من عصام الحداد، عدة علامات استفهام؛ لا سيما أن الأخير اعتاد إصدار البيانات التي أريد بها مخاطبة العالم في القضايا المحلية والخارجية على حد سواء.
الرئاسة الإخوانية هي الأخرى أصدرت بيانًا شديد الرسمية، استنسخ من بيانات شجب واستنكار كان يستخدمها الرئيس السابق، حسني مبارك، عندما كان يصدر بيانًا لمجرد إثبات الوجود وذرًّا للرماد في الأعين.
وبمعنى آخر، يبدو أن مرسي لم يشأ توجيه إدانة جادة لأصدقائه الأوفياء في دولة إسرائيل، رغم أنه كان من المنتظر من رئيس، طالما هتف في زمن مبارك ضد الإسرائيليين، وتشارك مع عناصر تنظيمه في شعار “,”خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود“,” و“,”بالملايين على القدس رايحين“,”، مواقف أكثر حدة وقوة، ولا أقول عدائية، تجاه هذا العدوان السافر.
بل كان من المنتظر أن يهب ويدعو الجامعة العربية لاجتماع عاجل؛ لبحث مواجهة إسرائيل وحل الأزمة السورية بعيدًا عن التدخلات الأجنبية، لكنه فضل أن يتوارى خلف كلمات تقليدية لم ينطقها هو بلسانه.
وفي المقابل نجد الدكتور محمد البرادعي، المتهم بالعمالة للأمريكان والتواطؤ لغزو العراق عام 2003، هو من يقدم اقتراحًا عمليًّا وجادًّا، وهو أن تعقد قمة عربية طارئة في العاصمة السورية دمشق، وأمر كهذا أتصور أنه قد يساعد على حل الأزمة السورية برمتها، إذا صدقت نوايا التنظيمات المسلحة التي تعتبر نفسها من فصائل المعارضة السورية الوطنية، كما أنها خطوة قد تساعد أيضًا على كشف وفرز التنظيمات الإرهابية التي لا تعمل لصالح القضية السورية، وإنما لصالح أوهام إقامة دولة الخلافة.
بنفس البرود الرئاسي تجاه العدوان الإسرائيلي، أصدر حزب الحرية والعدالة بيانًا أدان فيه ما وصفه بالعدوان الصهيوني على سوريا، مؤكدًا رفضه التدخلات الأجنبية في الشأن السوري الداخلي، أما قادة مكتب الإرشاد فلم يسمع لهم صوت، بينما اكتفى المتضخم عصام العريان بالتأكيد على أن الشعب السوري سينال حريته، دون أن يذكر من قريب أو بعيد الاعتداءات الإسرائيلية.
أما أذناب الجماعة في حزب “,”الوسط“,” فلم ينبتوا ببنت شفة، بينما انشغل صغارهم من “,”المفتين“,”، أي من “,”أهل الفتة“,” وليس “,”الفتوى“,”، بتحريم الرنجة والفسيخ وتهنئة المسيحيين وفسحة شم النسيم.
صحيح أن الصين وروسيا، الداعمتين الرئيسيتين لنظام بشار الأسد، لم تبديا اعتراضًا من أي نوع، بل إن نتنياهو توجه لبكين بعد أن عادت طائراته إلى قواعدها سالمة، لكن هذه الدول تعرف ماذا تريد وتعي مصالحها العليا، أما إدارة مرسي فيبدو أنها حائرة؛ فهي لا تجرؤ على اتخاذ موقف واضح وصريح تجاه ما يحدث في سوريا الآن، وذلك على عكس ما بدا عليه في بداية عهده، حيث كان واضحًا في عدائه لنظام بشار وداعميه، وصريحًا في تأييد المعارضة بل وتسليحها، وظل الأمر كذلك حتى حدث التقارب بين النظام الإخواني في قصر الاتحادية والنظام الإيراني، عندها طرأ تغير على موقف مرسي وجماعته، وخففت اللهجة المستخدمة في الحديث عن الوضع في سوريا، وتم إعادة القائم بالأعمال المصري للعاصمة دمشق.
ويبدو أن استجابة الإخوان للطلبات الإيرانية بشأن الموقف من بشار لم تكن بالقدر الكافي، وحدث نوع من المقاومة لرغبات طهران، لا سيما أن بعض الأهل والعشيرة يقاتلون ضد نظام الأسد، كما أنه من المتوقع أن تمسك جماعة الإخوان المسلمين بزمام الأمور خلفًا للأسرة العلوية؛ لذلك ووجهت تلك المقاومة بمزيد من الضغوط من قبل طهران، والتي كان أحد مظاهرها ما سرب بشأن قيام الإيرانيين بابتزاز جماعة الإخوان المسلمين والتهديد بفضح تآمرهم مع حماس وحزب الله لاختراق خطوط الأمن القومي المصري، ومهاجمة السجون، وتهريب عناصرها، الذين كان محمد مرسي واحدًا منهم.
وجاء الهجوم الإسرائيلي على دمشق مفاجئًا للجميع، لكنه أيضًا أتى بمباركة أمريكية؛ لأن إسرائيل قامت، وببساطة، بما لا تستطع الولايات المتحدة القيام به حاليًّا، في ظل رفض روسي وصيني لشن هجمات أمريكية تحت غطاء من الأمم المتحدة على النظام في دمشق.
ولأن إيران تعي مصالحها جيدًّا فقد كان موقفها واضحًا وجادًّا، بينما جاء موقف إدارة مرسي مرتعشًا؛ فلا هو يستطيع الصمت بسبب ابتزاز طهران، ولا هو يستطيع -وربما لا يرغب في- إدانة حقيقية وجادة؛ لأن العدوان، وببساطة، قد حققت نتائجه المتوسطة والبعيدة المدى، من وجهة نظره، مصلحة للمشروع الإسلامي.
ولا غرابة في ذلك؛ فهي ذات المصلحة التي رآها عندما تدخل عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؛ ليحصل من حماس على اتفاق هدنة طويل المدى، يقوم هو بدور الضامن الرئيسي لاستمراره.
وتظهر حقيقة موقف الإدارة الإخوانية في مصر تجاه ما يحدث في سوريا في دعوة ومطالبة شيخ الجماعة، يوسف القرضاوي، الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل لتسليح فصائل المعارضة تسليحًا جيدًا، والوقوف إلى جانبها لوجه الله، وعدم تصديق ما وصفه القرضاوي من شائعات حول إعادة توجيه هذا السلاح فيما بعد لدولة إسرائيل.
هذا هو موقف الإخوان، بل إنهم يريدون من الولايات المتحدة مساعدتهم في القضاء على أي فصائل محتربة أخرى تنتمي لتنظيم القاعدة، أو أي تنظيمات جهادية قد تشكل في المستقبل خطرًا على مستقبل تنظيم الإخوان في سوريا أو بالأحرى في حكمها.
المهم في ذلك كله يبقى أن نتساءل عن المصلحة المصرية العليا، ليس فقط بشأن ما يحدث في سوريا، ولكن بشأن توجهات السياسة الخارجية برمتها؛ فهي تمس عصب الأمن القومي المصري بشكل مباشر، ولا مجال للمغامرات أو الصفقات الرخيصة التي تستهدف فقط مصلحة التنظيم.
لذلك على وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورئيس جهاز المخابرات العامة، أن يتدخلوا سريعًا، ولا يتركوا مثل هذه الأمور للصغار والناشئين أو العابثين. وإذا كان الوزير محمد كامل عمرو قد فقد معظم صلاحياته، ولم يعد بوسعه سوى إصدار البيانات التي تطلب منه، فمن الكرامة، ولمصلحة الوطن، أن يقدم استقالة مسببة يفضح فيها عشوائية وجهل مؤسسة الرئاسة في إدارة ملف العلاقات الخارجية.
أما وزير الدفاع ورئيس المخابرات: فيكفيكما صمتًا؛ لأن الأمر يبدو وكأن هناك اتفاقًا على أن يمضي الإخوان في غيهم، بينما يكتفي جنرالات الجيش بإعطاء انطباع طوال الوقت بأن هناك بديلاً قادرًا دائمًا على التدخل في اللحظة المناسبة، ويظل الأمر كذلك حتى يستسلم المصريون، إما لليأس والإحباط ، وإما للوهم في لحظة تغيير لن تأتي أبدًا.. وهنا تكون “,”الخيانة“,”.. بكل معاني الكلمة.