لا يجوز بحال من الأحوال، أن تشغلنا جائحة الكورونا، عن قضية سد النهضة. فالجفاف والعطش وندرة المياه أخطر ألف مرة من الكورونا، ولا مكافحة للكورونا دون نظافة، ولا نظافة دون توافر المياه، ولا مكافحة للمرض دون غذاء كاف، ولا غذاء كاف في مصر دون مياه النيل.. وعلى كل مصري وهو يغسل يده طوال اليوم اتباعا للتعليمات الطبية للوقاية من الفيروس، أن يشكر الهدية الربانية التي أنعم الله بها على مصر وهي نهر النيل، ويجدد العهد على ألا يفرط فيها إلى أبد الآبدين، مهما كانت الضغوط ومهما تعددت المؤامرات والتحديات.
وإذا كان الله قد حبا مصر موقعا جغرافيا فريدا، يُطل على بحرين وخليجين وبحيرات، فقد حباها النيل العظيم.. ودون النيل العظيم لم يكن لمصر أن تزهو على المنطقة بأكبر عدد من السكان، وهو ما أعطاها هذا الوزن الجيواستراتيجي الكبير.. ودون هذا العدد من السكان، ما كان لمصر أن تغزو العالم بهذا العدد من المتعلمين أطباء ومهندسين ومحاسبين ومعلمين وعمال وفنيين يحولون لمصر سنويا ما يقارب من 28 مليار دولار أمريكي، إضافة إلى ما يوفرونه هم وأسرهم التي تعيش معهم، من موارد ومستهلكات ووظائف محلية "إيرادات قناة السويس عام 2019 لم تصل إلى 6 مليار دولار، يتم طرح جزء معتبر منها كمصاريف، أما تحويلات المصريين فهي مبالغ صافية".
وليس هنا مجال إثبات ارتباط تقدم الحضارة المصرية والإبداع المصري بوجود نهر النيل. وليس هنا أيضا مجال إثبات أن مصر كدولة المصب النهائي للنيل، قد نعمت بنيل مهذب أكثر هدوءا وطاعة وجمالا وأقل تمردا عما هو في دول المنابع. ومن ثم كان من الطبيعي أن يتركز السكان في مصر حول مجرى النيل وداخل دلتاه في 5% من المساحة الكلية للدولة.. لقد ساهم نظام الري الفريد وشق الرياحات والترع والمصارف والقنوات في الاستغلال الأمثل لمياه النيل، وهذه النقطة لازالت ملتبسة عند دول حوض النيل، فليست كمية المياه هي العامل الوحيد في استفادة مصر من نهر النيل، لكن يكملها هذا الجهد والاستثمار الهندسي الفريد في نظام الري، والذي استثمرت فيه مصر على مر مئات السنين أرواح آلاف العمال الشرفاء الذين ماتوا وهم يحفرون تلك القنوات بمعاولهم وعرقهم تحت لفح الشمس وقسوة وشظف العيش، إضافة إلى الأموال والديون التي تكبدتها الدولة المصرية "كنت أتعجب وأنا تلميذ صغير لا يتعدى عمري 10 سنوات، أن جدتي غندورة سالم، كان لها حديقة صغيرة، تحيط بها المساكن من الجهات الأربع، ومع ذلك تصلها مياه النيل! وكان ذلك عن طريق مواسير بدائية من الفخار تربط الحديقة بقناة مائية صغيرة وتسير تحت المساكن وتصب في بئر صغير في الحديقة، حيث يتم استخراجها بالشادوف لري الحديقة".
إن تحلية مياه البحر عملية مكلفة ومحدودة السعة ولها متطلبات كثيرة وعمليات صيانة معقدة، قد تقلب اقتصاديات مصر والمصريين بالسالب رأسا على عقب.. وبالتالي فمياه النيل مرتبطة بالوجود الطبيعي لمصر وللمصريين.
كما أن تكلفة المياه النظيفة في مصر منخفضة بسبب وجود نهر النيل، وهو ما يمكن عموم المصريين من استخدام تلك المياه بكفاية تمكنهم من تحقيق النظافة اللازمة لمكافحة الأمراض ومنع انتشارها.. وليس خافبا على أحد أن معدلات وفيات الأطفال أكثر ارتفاعا في الدول التي تعاني شُحا في المياه النظيفة.
إن مياه النيل في مصر ليست حيوية فقط لحياة الإنسان والحيوان والزراعة والصناعة والبناء والعُمران ولكن أيضا هي مصدر للاطمئنان والقوة الحيوية الوطنية المخزونة والمتدفقة.