إن الحديث عن «منهج التفكير العلمي» يقتضى التوقف قليلًا أمام مصطلح «العلم» Science، إذ ثمَّـة صعوبة في تعريف هذا المصطلح، فلو قلنا: «إن العلم نشاط إنساني»، فلن نجد خلافًا حول ذلك. أما إذا أكملنا العبارة وقلنا: «إن العلم نشاط إنسانى يهدف إلى كذا... » هنا يظهر خلاف له بداية وليست له نهاية، وسوف تفترق وجهات النظر حول تحديد هذا الهدف: هل الهدف من وراء هذا النشاط الإنسانى مجرد المعرفة؟ سواء أكانت الإجابة بالنفى أم بالإيجاب، فإن السؤال سيظل قائمًا: المعرفة من أجل ماذا؟ تكاد تكون الإجابة عن هذا السؤال محسومة فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية: معرفة الطبيعة من أجل التحكم فيها وترويضها لخدمة الإنسان. ولكن هل تصلح هذه الإجابة إذا كان السؤال متعلقًا بالعلوم الإنسانية؟
أيًا ما كان الموقف الذى يتبناه الباحث في هذا المجال، فإنه بالتأكيد موقف يؤثر في الأداة أو الطريقة أو الوسيلة التى يجمع بها مادته. فإذا كان الهدف من العلم معرفة القوانين التى تحكم هذه الظاهرة أو تلك، لكى نتنبأ بما سيحدث ونستعد له، فإن هذا يعنى ضمنًا أن هذه القوانين ثابتة. أما إذا كان الهدف من العلم معرفة القوانين التى تحكم ظاهرة ما لكى نغير منها، فإنه ينبغى في هذه الحالة البحث عن أساليب من أجل التغيير إلى الأفضل، لكن هنا تنشأ مشكلة أخري: الأفضل من وجهة نظر مَنْ؟ إن «الأفضل» من وجهة نظر السلطة الحاكمة، مثلًا، يختلف عن «الأفضل» من وجهة نظر هذا الحزب أو ذاك. قد تكون هذه الاعتراضات أو التساؤلات وغيرها، صحيحة في حالة واحدة لو كان الحديث يدور حول العلوم الإنسانية – ولاسيما علم النفس – التى تسعى إلى دراسة الإنسان بوصفه ذاتًا. فالذات تعكف على دراسة نفسها، وتجعلها موضوعًا لبحثها، لا يكون السؤال عن موضوع الدراسة أو البحث في هذه الحالة سؤالًا فلسفيًا. فالعلم لا يسعى إلى دراسة كيانات مثل الإنسانية، بقدر ما تهتم الفلسفة بمثل ذلك.
ولما كانت النتائج العملية للتطبيقات العلمية تتم الآن بصورة رائعة، لذا فإنه حين تُذْكَر كلمة «علم» أمامنا فإننا نميل - في أغلب الأحيان- إلى قصر هذه الكلمة على التقنيات الحديثة كالسيارات والطائرات والصواريخ وسفن الفضاء والهواتف المحمولة والكمبيوتر... إلخ. غير أن هذا، في واقع الأمر، خطأ بالغ، لأن العلوم التطبيقية التى تنتج تلك التقنيات الحديثة إنما تستند في الأساس إلى العلوم البحتة، والتى بدونها ما كان من الممكن أن تقوم العلوم التطبيقية. وإذا أردنا تعريف «التكنولوجيا»، فإننا نقول: «إنها الأدوات أو الوسائل التى تُسْـتَخدم لأغراض عملية تطبيقية، والتى يستعين بها الإنسان في عمله لإكمال قواه وقدراته، وتلبية تلك الاحتياجات التى تظهر في إطار ظروفه الاجتماعية ومرحلته التاريخية الخاصة».
أما إذا نظرنا إلى لفظ «علم» من حيث اشتقاقه اللغوى، فسنجد أنه ترجمة للكلمة الإنجليزية «Science» المشتقة من الفعل اللاتينى Scire: «أن يعرف» to know. ولم تتم صياغته إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ليدل على ذلك النسق المعرفى النامى حديثًا، وعلى وجه الخصوص الطبيعة والكيمياء بمنهجهما الصارم وطابعهما المحكم، ثم توالى اجتياح العلم لمجالات شتى، أتت كلها وفقًا لهذا المصطلح «Science». ولكن لم يُوْضَع له مقابل في اللغة العربية إلا مصطلح «علم» العريق جدًا والمترامى النطاق في ثقافتنا، حيث يدل على أى نشاط معرفى، وأى درس عقلى على وجه الإطلاق.
وكلمة «العلم» في اللغة العربية تحمل معنيين مختلفين، الأول: معنى واسع يرادف «المعرفة»، ومن ذلك قوله تعالى: «وَقُل رَّبِّ زِدنيِ عِلمًا». (طه - ١١٤)، أى زدنى معرفةً، أيًا كان ميدان هذه المعرفة. ونحن نقول في حياتنا اليومية: «لا علم لى بهذا الموضوع»، أى لا أعرف عنه شيئًا. والثانى: معنى ضيق هو الذى يرادف العلم التجريبى Science على نحو ما يتمثل في «علم الفيزياء» و«علم الكيمياء»... إلخ. وهو ضرب من المعرفة المنظمة التى تستهدف الكشف عن أسرار الظواهر الطبيعية، بالوصول إلى القوانين التى تتحكم في مسارها، ومن ثمَّ تمكننا من السيطرة على الطبيعة لصالح الإنسان. والجدير بالذكر أن بعض الفقهاء - كابن تيمية وابن حنبل – قد رأى أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة..إلخ، بل إن وسائل إعلامنا ما زالت، حتى هذه اللحظة، تقدم الدعاة ورجال الدين على أنهم «العلماء» بألف لام التعريف. غير أن هذه المحاولة من جانب الإعلام والإعلاميين لا تزيد على كونها تضليلًا إعلاميًا، وتغييبًا للعقول!!