الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

يسري عبدالله يكتب: الطيف النبيل لجميل عطية.. "شهرزاد على بحيرة جنيف" بطل ممزق ونوستالجيا مهيمنة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مثل طيف جميل لا تستطيع أن تنساه أبدا، وروح مفعمة بالجمال، ستجدها تناديك وحدها، وتسأل عنك، وحينما تمسك أنت بزمام المبادرة وتبدأ في البحث بجدية عنها لن تجدها، لأنها ستكون قد رحلت محملة بإرث عارم من المحبة والنزاهة، اللتين تميزانها.
ومثل النزول إلى البحر أو أعمق قليلا، ستجدها حاضرة في تفاصيل صغيرة تبدو مثل وجه باسم في الطريق.
الروائي الكبير والنبيل جميل عطية إبرهيم الذي عرفته عبر حكايات مقتضبة من الأستاذين الكبيرين بهاء طاهر، ومحمد البساطي، وقد أخبرني الأستاذ البساطي بخفة دمه وبساطته الآسرة، بأن جميل يسأل عنك، ويحيي ما تفعله، وسيتصل بك من سويسرا، وللوهلة الأولى أدركت أنه يعني الأستاذ جميل عطية إبراهيم.


سنصبح صديقين بعد أول مهاتفة بيننا، وسنلتقي حين يعود للقاهرة. كنت قد قرأت له ثلاثية 1952، والنزول إلى البحر، وسأقرأ بعدها روايته شهرزاد فوق بحيرة جنيف وسأناقشها في ندوة أدارها الروائي الكبير بهاء طاهر، وستمر السنوات تتعمق فيها علاقتنا ولقاءاتنا في الجيزة قريبا من العمرانية حيث يسكن، وفي الهرم حيث أسكن، وسأصنع بعدها بسنوات دراسة أكثر اكتمالا عن الرواية في كتابي " الرواية المصرية.. سؤال الحرية ومساءلة الاستبداد".
وجميل عطية إبراهيم الذي صنع تجربته الإبداعية بلا صخب، وبلا ضجيج، يعد واحدا من أهم مبدعي جيل الستينيات، فهو يملك تجربته السردية الخاصة، والمتكئة على مواضعات فكرية وجمالية تعبر عن مشروعه الإبداعي المتفرد.
وربما ستتعدد مداخل التجربة الإبداعية لجميل عطية إبراهيم، بدءا من جدل السياسي والجمالي فيها، وتداخل الأيديولوجي مع الفني، وصولا إلى خلق مساحة خاصة من التخييل في النص، فتخرجه من حيز الواقعي الصرف إلى أفق الفانتازيا التي توسع من مفهوم الواقعية المحضة وتتخطاها، وهذا ما يمكن تلمسه في روايته " شهرزاد على بحيرة جنيف ".
"شهرزاد على بحيرة جنيف": بطل ممزق، ونوستالجيا مهيمنة:
في "شهرزاد على بحيرة جنيف" نرى مفارقة دالة في العنوان الذي يضعه الكاتب لروايته حيث المقابلة بين عالمين: "قديم"، و" حداثي"، "فشهرزاد/الشخصية" تصبح مؤشرا على عالم "قديم/ شرقي الهوي"، و"جنيف/ المكان" تصير مؤشرا دالا على عالم "غربي/ حداثي النزعة"، وقد مثلت هذه المفارقة مرتكزا أساسيا يتكيء عليه هذا النص المكون من مجموعة من "الحلقات السردية" المشكلة لبنية روائية متجانسة، حيث هناك روابط عدة تدعم لُحمة السرد داخل النص، تبدأ هذه الروابط من الشخصيات المركزية داخل الرواية "الراوي/ البطل، شهرزاد، كريستينا"، وصولا إلى هيمنة هاجس أساسي لدى "الراوي" يحاول بثه في تضاعيف حلقاته السردية المختلفة، ويتمثل هذا الهاجس الرئيسي في تلك الثنائية المتقابلة "الهوية/ العولمة"، فسؤال "الهوية" - أحد أهم أسئلة الرواية العربية - يصير في جوهره وعيا بالعولمة، ووجها مقاوما من أوجه مجابهتها لدى "الراوي/ البطل".
فثمة مقابلة إذن بين عالمين "قديم/ حداثي" يملك كلاهما سطوة التأثير في الواقع الراهن للراوي البطل، هذا الراوي الموزع بين هذين العالمين المتعارضين، والباحث عن حلمه المستمد من مشروع وطني الملامح والهوى، فكلا العالمين يصنعان أزمته، فحكايات "الجني" مؤشر دال على عالم تسوده الخرافة، وحكايات "العولمة" دالة على عالم تطحن فيه العظام والجماجم!!، ومابين "الجني" و"العولمة" يقف "الراوي/ البطل" باحثا عن مشروعه الحقيقي:" وتشغلني هذه الأيام مسألة وضع زهور حمراء على قبري، لا أفكر في مكاسب مادية في أرذل العمر. جدي البسيط رفض بيعي للجني في زمن مضى، وكريستينا تود بيعي مع القرن الجديد، حلف الأطلسي لم تعد له وظيفة واحدة مشرفة بعد انهيار الكتلة الشرقية".
ومن ثم كان التعلق بأهداب "الحلم الناصري": "لن أفصح عن سر تعاستي كريستينا أجنبية ولن تفهمني. عاش جمال عبدالناصر معاركة ومات وهويندد بحلف بغداد وبحلف الأطلسي ثم آتي أنا في بداية قرن جديد بعد موته بعدة عقود و.. غاضبا غرقت في صمتي. كيف أنظر إلى صورة جمال عبدالناصر المعلقة في غرفتي، وعلى جسدي حلة قائد حلف الأطلسي! مزقت جلدي لأتخلص من الحلة العسكرية".
وهذا التعلق بالحلم الناصري لم يكن هوي ستينيا، قدر ما كان تعبيرا عن نزوع رؤيوي يحمل انحيازه الخاص والدال للمقولات الكبرى.


وللمفارقة دورها المركزي والفاعل في رواية جميل عطية إبراهيم " شهرزاد على بحيرة جنيف" بدءا من حكايته الأولى "حكاية رسمها جني ويرويها مغفل زمانه" وحتى حكايته الأخيرة "نغمات الكون"، ومابين الحكايتين يمارس الكاتب ترحالا في الأزمنة والأمكنة، جاعلا من "جنيف" مكانا مركزيا ينبيء عن اللحظة العالمية الراهنة، ومن "شهرزاد" حضورا تاريخيا ممتدا يصل الماضي بالراهن، متوسلا في ذلك بتشخيص سحري يجاوز المألوف، حيث ينفتح النص على "الواقعية السحرية" متجاوزا عبرها خطاب "الواقعية" المطروق، ليتسنى له حرية الحراك الزماني والمكاني.
وإذا كان الفن - في تجل من تجلياته- هو اختيار وطرح لماهو جوهري ودال، فإن "جميل عطية" قد أجاد في القبض على لحظة روائية فارقة، هي ذاتها اللحظة العالمية الراهنة بتساؤلاتها المعقدة والمتشابكة، وفي نفس الآن الذي اختار فيه مكانا روائيا دالا، فمدينة "جنيف" تعد "وسطا بيئيا" بالغ الفرادة، حيث تعد نموذجا للمدينة "الكوزموبوليتانية" والتي تتجاور فيها أشياء عدة، مثلما تجاورت في الرواية مفردات وعلائق متعددة، بدءا من"عاهرات ماركيز الحزينات" وحتي الهيئات المختلفة للأمم المتحدة، مرورا بزمن التداعي العربي.


و"شهر زاد" القادمة من زمن مضى، من "بغداد" التي تقاوم الموت والنسيان، إلى "مدينة" جديدة/ حداثية/ كوزموبوليتانية " جنيف "، تبدو مثل قناع فني يحاول عبره "الراوي" إقامة تلاقح ثقافي يسعى إليه في النص، غير أن هذا التلاقح القائم على تفاعل ندي " ثقافي/ سياسي" يجد نفسه مجابها بحيل السيدة "كوندي" وتنظيراتها حول "الفوضي الخلاقة"!!.
"شهرزاد على بحيرة جنيف" رواية تدين اللحظة العالمية في أشد حالاتها كارثية، يملك راويها القدرة على إقامة مراجعة نقدية واعية لسطوة الآخر وهيمنته، وعلى الرغم من "المراوغة التقنية" التي تتسم بها الرواية، إلا أنها لم تمارس "الروغان" أو "الهرب" فكريا،
حيث تحمل موقفها الرؤيوي الدال من العالم، حاوية انحيازاتها الخاصة "وهذا مايبدو بارزا في المفارقة الكامنة في عدم قدرة الأمم المتحدة على اتخاذ قرار بإدانة إسرائيل في حربها على لبنان، في الوقت الذي تطالب فيه جمعيات غربية عديدة بمحاكمة شهريار المنقضي أثره من زمن مضى"!!!
وإذا كان التناص الذي يصنعه الكاتب في روايته قد أسهم في انفتاح النص على تأويلات متعددة، فإنه قد أفضى كذلك إلى جعل رواية "شهرزاد على بحيرة جنيف" نصا ثريا متعدد الطبقات، كذلك لعبت شخصية "الأمير متراس" دورا بالغ الأهمية في إضفاء المزيد من التوتر على الحدث الدرامي داخل النص، حيث تمثل ما يعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة وهي تلك الشخصية التي تسهم في دفع الحدث الدرامي الراكد إلى الأمام.
إن جميل عطية إبراهيم لايستدعي هنا شخصيات تراثية فحسب "شهر زاد مثلا"، بل يستدعي كذلك حكايات تراثية، مثل حكاية منشار الزمن، ويضفي عليها صبغة راهنة. إنه يتحدث عن "الموت" باعتباره جزءا من دورة "الحياة"، ولذا فإن ثنائية "الحياة/ الموت" هي الوجه الواقعي لجدل الاتصال/ الانفصال الذي يهيمن على حلقات السرد المتصلة المنفصلة.
وبعد.. في "شهرزاد على بحيرة جنيف" تسيطر "نوستالجيا" من نوع خاص على "الراوي/ البطل"، يبدو من خلالها السرد مفعما بالأسى، مكسوا بالحنين إلى مراتع الطفولة والصبا.
هنا يقف "جميل عطية إبراهيم" على تخوم المسافة بين عالمين، أحدهما واقعي قائم، والآخر افتراضي متخيل، طارحا عبرهما "سؤال الهوية" المركزي، وباحثا فيهما عن مدينته المبتغاة.