الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأخلاق الحيوية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقيت «الأخلاق» إلى عهدٍ قريب مبحثًا فلسفيًا يتداوله الفلاسفة، ويخوض فيه علماء الأخلاق التقليدية بوصفه «علمًا معياريًا» يقوم على الأحكام التقويمية. وقد أدخل الفلاسفة «الأخلاق» ضمن علومهم المعيارية الأخرى (المنطق وعلم الجمال). وكانت حجتهم فى ذلك أن «الأخلاق» علم عقلي يدرس ما ينبغي أن يكون، وأن المشكلة الأخلاقية بطبيعتها مشكلة نقدية تتصل بأحكام القيمة لا بأحكام الواقع. ولما كانت أحكام القيمة لا تخلو من «الذاتية»، فقد اصطبغت «الأخلاق» بصبغة فلسفية شخصية، وأصبح هدف كل فيلسوف أن يتبنى لنفسه «مذهبًا أخلاقيًا» جديدًا يعارض به الأخلاق القائمة، ويحاول من ورائه أن يُشرِّع لغيره من الناس. ولم يلبث الفلاسفة أن نسوا أو تناسوا أن هناك «حقيقة أخلاقية» توجد في استقلال عن أحكامهم التقويمية، وأن هذه «الحقيقة» تتمثل بوضوح في القواعد التي يأخذ بها الناس أنفسهم في سلوكهم العادي، دون أن يحفلوا بآراء أصحاب الفلسفات النظرية ومذاهبهم الأخلاقية.
ولكن ماذا نعني بالقيم الإنسانية؟ أولاً وقبل كل شىء، فإن القيم هى مُثُلٌ معينة نقدرها حق قدرها، ونود امتلاكها ونسعى إلى تحقيقها بوصفها خيرًا، كما ننظر إليها بوصفها أهدافًا ثابتة لحياتنا. ثانيًا: إننا لا نُدرج احتياجاتنا الطبيعية ضمن تصورنا للقيم، مهما كان تقديرنا لهذه الاحتياجات، واضطرارنا الدائم لإشباعها من أجل استمرارنا أحياءً. ومن الإنصاف القول: إن مفهوم القيم إنما يتعلق بذلك الجانب من أهدافنا الذى لا يرمي مباشرًة إلى بقائنا على قيد الحياة. إننا نطلق على هذا الجانب اسم «الحياة الروحية» Life Spiritual، على عكس الجانب الآخر الذي لا يمكن وصفه بأنه طبيعي أو بيولوجي. 
وإذا كان حديثنا الآن منصبًا على «الأخلاق الحيوية» Bioethics فلابد من تعريف هذا المصطلح، فالمقصود بالأخلاق الحيوية « دراسة القضايا التي تنشأ في مجالات الرعاية الصحية والعلوم البيولوجية». فضلاً عن أنها تشمل دراسة القضايا الاجتماعية والقانونية والاقتصادية التي لها صلة بالقضايا الأخلاقية. وبالرغم من أن مصطلح «الأخلاق الحيوية» نفسه جديد، وأن بزوغ نجم هذا مصطلح يعود الفضل فيه إلى التطورات الأخيرة في العلوم الطبية الحيوية، فإنه يمكن النظر إلى «الأخلاق الحيوية» أيضًا بوصفها صيغة حديثة لمجال فكري أكثر قدمًا، ألا وهو «الأخلاق الطبية» Medical Ethics. وليس من شك في أن «الأخلاق الحيوية» تزعم بأن الأخلاق الطبية تقع في دائرة اختصاصها، لكنها تنحى منحى متباينًا للغاية بطرق شتى. وبشكل تقليدي صبت الأخلاق الطبية جل اهتمامها في المقام الأول على العلاقة بين الطبيب والمريض، وعلى الفضائل الحسنة التي يتحلى بها الطبيب الجيد. كما أنها عُنِيَت كثيرًا أيضًا بالعلاقة بين الزملاء في المهنة، إلى درجة أنها بدت أحيانًا وكأنها تجسد ملاحظة جورج برنارد شو أن «جميع المهن عبارة عن مؤامرات ضد من هم ليسوا أعضاء بها». أما «الأخلاق الحيوية»، فعلى الجانب الآخر، فهى تمثل مشروعًا نقديًا أكثر انفتاحًا وتأملاً. إذ إنها لا تقتصر على استقصاء الأبعاد الأخلاقية للعلاقة بين الطبيب والمريض، والعلاقة بين الطبيب والطبيب، لتتجاوز نطاق الأخلاقيات الطبية التقليدية بطرق عديدة. أولاً ، ليس هدفها تنمية، أو التمسك بأي قانون أو مجموعة من التوصيات، ولكن هدفها يكمن في التوصل إلى تحقيق فهم أفضل للقضايا. ثانيًا، هى مهيأة لأن تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول طبيعة الأخلاق، وقيمة الحياة، وحول معنى أن يكون الإنسان شخصًا، ودلالة كونه إنسانًا. ثالثًا، فهى تتصدى لقضايا تتعلق بالسياسة العامة للعلم، وتوجيهه والسيطرة عليه. ففي ضوء كافة هذه المعاني، تُعَد الأخلاق الحيوية مبحثًا جديدًا متميزًا، غير أن تاريخها يجب أن تقترن بدايته مع تاريخ آداب مهنة الطب. 
ففي مجال العناية بالصحة لا يمكن اعتناق مبادئ مطلقة. ومع ذلك، فإن هناك كثيرًا من المبادئ التي تبدو ملائمة للحالات المختلفة المتعلقة بهذا المجال. فحتى وإن كانت هذه المبادئ لا تتصف بأنها مطلقة، فإنها تفيد في مجال الطب الإكلينيكي بوصفها مبادئ مرشدة. لقد أثبتت مثل هذه المبادئ جدارتها لسنوات طويلة، ولاقت قبولاً عامًا نظرًا لنجاحها في حل مشكلات أخلاقية عديدة متعلقة بالطب. 
إن فلسفة الطب تواجه مشكلات بالغة الصعوبة، فقد أصبحت الأخلاق الطبية كفرع للأخلاق التطبيقية مثار اهتمام واضح حينما ابتعدت عن التأملات النظرية المجردة واستندت إلى مسائل عملية انبثقت من الواقع وتتعلق بمشكلات الحياة اليومية وأمور الصحة والمرض. لاسيما فيما يتعلق بأخلاقيات المهنة ذاتها، من خلال التساؤلات العملية عما يجب القيام به إزاء الحالات التي يواجهها الطبيب. لأن الطب قائم على التشكل المستمر، بخلاف ما هو الحال في مجالي الأعمال business والقانون. ومع ذلك فحتى أولئك الذين أخذوا على عاتقهم حل المعضلات الأخلاقية في مجال الطب كالمرضى وأفراد العائلة والأطباء والممرضات، والقائمين على إدارة المستشفيات، ورجال الإدارة المحلية، وقاموا بانتهاج أسلوب معالجة كل حالة وكأنها فريدة وجديدة وغير مسبوقة على الإطلاق، إن أولئك قد أخفقوا في مسعاهم، فقد فاتهم أن أفضل سبيل للحل هو فهم المبادئ العامة التي تشكل منظومة أو نسقًا للأخلاق ومواجهة كل موقف على ضوء هذه المنظومة. 
إن نقطة البدء في دراسة الأخلاق الطبية هى الإقرار بأنه ليس في وسع المرء ممارسة أى نوع من الأخلاق؛ لاسيما الأخلاق الطبية بطريقة مجردة. لأن المعضلات التي تنشأ في هذه المجالات إنما تأتينا من الحياة الواقعية، ولأناس حقيقين من لحم ودم. ومع هذا فإن محاولة وضع إطار عام نظرى هو أمر ضروري لحل معضلات الحياة العملية. 
وهنا يبرز سؤال: ما طبيعة المادة التي تقدمها الأخلاق الحيوية في مجال الطب؟ للإجابة عن مثل هذا السؤال علينا أن نشير أولاً إلى أن هناك قيمًا واضحة بذاتها في مجال العناية بالصحة، فعلى سبيل المثال، تبدو الفكرة القائلة بأنه ينبغي على الطبيب «ألا يؤذي» Ought not to harm أي مريض، بوصفها فكرة مقنعة في نظر أي إنسان عاقل. كما يمكن النظر إلى الفكرة القائلة بأنه يجب على الطبيب أن يطور خطته العلاجية من أجل تحقيق أكبر نفع للمريض مستخدمًا في ذلك الاختيارات البديلة، بوصفها فكرة واضحة بذاتها. علاوة على ذلك فإن ضرورة أخذ موافقة المريض على برنامج العلاج المقترح قبل الشروع في تنفيذه إذا كانت قدرته الإدراكية تمكنه من ذلك، هذه المسألة أصبحت من الأمور التي تلقى قبولاً واسعًا الآن. وأخيرًا ينبغي أن تشمل الرعاية الصحية الجميع على أساس العدل والمساواة.