موضوع علم الطب، هو تشخيص مرض المريض بعد ملاحظة أعراض المرض عليه، ومحاولة اكتشاف الدواء الذى يشفيه من ذلك المرض.
يوحى التعريف السابق للطب بأنه فن أو صنعة، لكن الواقع أن الطب علم وتطبيق معًا. هو علم نظري- كسائر العلوم الطبيعية– له منهجه وقوانينه ونظرياته عن المرض والصحة والعلاج. هو علم نظري، حيث يحاول فهم العالَم لكى يغيره، والعالَم في هذا السياق هو الناس؛ سواء منهم المرضى أو الأصحاء، ومحاولة تغييرهم من حالة المرض إلى حالة الصحة أو وقايتهم من المرض. وأبسط دليل على أن الطب علم نظرى هو ارتباطه بكثير من العلوم النظرية، مثل: الفيزياء في استعانته بأشعة الليزر والنشاط الإشعاعى في معداته التكنولوجية، ومثل: علوم الكيمياء الحيوية، وعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، والتشريح، وعلم الأمراض العصبية، لكن أكثر العلوم ارتباطًا بالطب هو علم الأحياء (البيولوجيا). يأخذ الطبيب من علم الأحياء تركيب الجسم الإنسانى من أعضاء وعضلات وأنسجة وشرايين، ووظائف كل منها، وكيف تؤدى وظائفها، والخلايا الحية التى تؤلف كلًا منها، وتركيب كل نوع من أنواع تلك الخلايا، يتوصل علم الطب إلى قوانينه ونظرياته. ومن البدهى أن الطب ليس مجرد علم نظري، وإنما هو أيضًا علم تطبيقي، أو فن، من حيث هو مجموعة من الأساليب التقنية، لتشخيص الأمراض وعلاجها؛ بوصف الأدوية المناسبة أو الجراحات الضرورية، وأساليب الرعاية الصحية والتغلب على الأمراض أو تجنبها ومساعدة المريض على الشفاء.
الطب ليس علمًا خالصًا، وإنما هو «علم وفن» في الآن ذاته، لأن دراسة الطب ليست دراسة نظرية، قوامها الاستدلالات العقلية الخالصة فقط، والبراهين المنطقية المجردة فحسب، وإنما تقوم دراسة الطب على التجريب والخبرة والممارسة العملية المعتمدة على الحواس الخمس (وبخاصةٍ مهارة استخدام اليدين)، بجانب الدراسة النظرية بطبيعة الحال. ولذلك قلنا «إن الطب علم وفن»، لأنه يجمع بين الاثنتين: الدراسة النظرية والخبرة العملية. وهذا يفسر لنا أيضًا كيف أن طبيبين تخرجا في جامعة واحدة في السنة ذاتها، مرَّ على اشتغالهما بالطب عشرون عامًا، تزدحم عيادة أحدهما بالزبائن، وتجوب شهرته الآفاق، في حين تكون عيادة زميله الآخر خالية على عروشها، لا شهرة ولا صيت!! درس كل منهما العلوم النظرية المتعلقة بالطب، ولكن حين شرعا في ممارسة مهنة الطب، برع أحدهما في الجوانب الفنية المتعلقة بقوة الملاحظة ودقتها، ومهارة استخدام اليدين، وتوظيف بقية حواسه كطبيب في فحص مرضاه. وفشل الآخر في تحقيق ذلك، فنجح الأول، وخاب الثاني.
وإذا أردنا العودة إلى الجذور الأولى لنشأة الطب على يد «أبقراط» Hippocrates، فسوف تتجلى لنا الأسس الإنسانية لهذه المهنة العظيمة، التى تحولت، في أيامنا هذه، إلى «تجارة» على يد بعض المتربحين الجشعين من الأطباء. والأمثلة على تحول الطب إلى «تجارة وجزارة» تفوق الحصر. صحيح أننا لا نعمم ونرفض التعميم، لأنه يتعارض مع أبسط مبادئ البحث العلمي. إذ إن هناك، بلا ريب نماذج رائعة من الأطباء.
مهما يكن من شيء، فإن الحديث عن نشأة الطب يقتضى الوقوف طويلًا عند «أبقراط» الذى وُلِـدَ في جزيرة «كوس» نحو سنة 460 ق.م.، وتعلم الطب على يد والده، وساح في بلاد اليونان سياحة واسعة. كان «أبقراط» شديد الرصانة، كثير التحفظ، بالغ التواضع، فهو القائل: «ليس عندى من فضيلة العلم سوى إدراكى بأننى لست بعالِم»، وكانت وسائل العلاج الفنية المتوافرة لديه قليلة الجدوى ضعيفة الأثر، وكان على علم بذلك. وكان أكثر ما استطاع الطبيب أن يرجوه في علاج المريض أن يُلطّف آلامه إن أمكن، ويُنشّط ويُقوىّ معنوياته.
إن الألفاظ اللاتينية vis medicatrix naturae «قوة الطبيعة الشفائية» تعبر تعبيرًا أنيقًا عن الفكرة الأساسية في التعليم الأبقراطي. وهى في التعبير الطبى الحديث تعنى «أن العافية حالة من التوازن المستقر»، والمرض إنما هو تصدع في ذلك التوازن. وحيث لا يكون التصدع بالغ العمق لا يلبث التوازن أن يستعيد مكانته من تلقاء نفسه. فينبغى والحالة هذه، أن يوفر الطبيب للمريض من الراحة الجسدية وهدوء النفس ما يتسنى معهما تحقيق الشفاء. والواجب الأول للطبيب أن يرعى المريض ويعين الطبيعة في عملها. ويمكن تلخيص فلسفة «أبقراط» في الطب: «إن المرض عارض طبيعي، وما الظواهر المرضية إلا رد فعل من جانب الجسم، وإن أهم ما يقدمه الطبيب للمريض هو معاونة قوى الجسم الدفاعية».
لقد حرر «أبقراط» الطب من سيطرة رجال الدين ووضع له نظمًا جديدة، كما كان أول من رفع مسئولية علاج المرضى عن الآلهة ووضعها على عاتق الإنسان فقط. وإذا كان ذلك ما أحرزه «أبقراط» في القرن الخامس قبل الميلاد، فإننا في الألفية الثالثة بعد الميلاد ما زال بعضنا – للأسف الشديد - يعتقد في علاجات مثل شرب «بول الأبل» وغيره!!
ترجع شهرة «أبقراط» إلى «القسم» المنسوب إليه، والمعروف باسم «قسم أبقراط»، وهو العهد الذى يقطعه الأطباء على أنفسهم عند تسلم مقاليد المهنة، وتدلنا روح هذا القسم على الدرجة العالية التى بلغتها الأخلاق من السمو، إذ نص هذا القسم على أمور لها أهميتها ودلالتها على الثقافة العلمية والأدبية التى بلغها ذلك العصر منذ أكثر من عشرين قرنًا، حيث حرّم الإجهاض، كما منع الطبيب من إبداء النصح أو إعطاء أى عقار يؤذى صحة المريض، وربط الطبيب بقدسية المهنة وسريتها التى لا يجوز إفشاؤها.
ولأبقراط مقولات كثيرة تتحدث عن آداب المهنة وتقاليدها وواجباتها، نذكر منها:
«يجب على من يريد الحصول على المعرفة التامة في العلوم الطبية أن يكون لديه الاستعداد التام لذلك، وأن يلتحق بمعهد طبيب، وأن يتعلم منذ حداثته، وأن يكون لديه الميل للعمل، وكذلك يجب أن يتوافر لديه وقت كاف للدراسة».
«إن أهم واجب على الطبيب هو العمل على إزالة آلام المريض، أو على الأقل تخفيفها».
«على الطبيب واجب مهم جدير بالاعتبار، وهو أن يكون حسن المظهر والهندام، وألا يكون عليلًا أو ضعيفًا، لأن المرضى يعتبرون أن الشخص الذى لا يعتنى بنفسه لا يمكنه العناية بغيره، ويجب على الطبيب أن يتعلم أن يصمت في الوقت المناسب، كما يجب الاعتدال في معيشته، محافظًا على سمعته وكرامته، ويجب أن يحسن التصرف كرجل شريف، وأن يكون صبورًا رقيق الجانب، وأن يكون هادئًا غير متهور في عمله، رابط الجأش، غير حاد المزاج أو عبوسًا، كما يجب ألا يكون كثير المرح».
«ويجب على الطبيب أن يتحلى بخصال الفيلسوف الحميدة، ومنها إنكار الذات، والحماس، والتواضع، والمظهر المحترم، والجدية، والحكم الهادئ، وهدوء الفكر والحزم، والحياة الطاهرة وعدم الثرثرة، وتجنب الأشياء الضارة، والإيمان والتعبد لله».