تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
حاولنا في مجموع المقالات السابقة الحديث عن الفكر الدينى الذى هو فكر البشر في تفسير النص الدينى لكل الأديان السماوية ووضعيته في كل زمان وكل مكان، ذلك الفكر البشرى الذى أراد بكل الصور وبشتى الأساليب استغلال الدين لصالح كل المصالح الذاتية ولتمرير كل الطموحات المادية ولتأكيد النظريات والأيدولوجيات السياسية، كما أن الأمر لم يخل من استغلال الدين لتكريس الطبقية وفرض الطائفية والافتخار بالقبلية، وهذا لم يحدث في مصر فقط ولكن التاريخ قد أثبت أن كل هذا حدث ويحدث في كل مكان وتحت أى مسميات، ولكن هنا هل تلك السلوكيات وذلك الفكر الذى يستغل النص أثر في السياق التعددى المصرى طوال تاريخ مصر؟. هنا تساءل الكاتب والمفكر الصديق سليمان شفيق معلقًا على مقال الهوية بين الطائفية والقبلية بالآتى «هل تعتقد أن الأساس في الحضارة المصرية تستوعب التعددية أم العكس ؟» وأضاف سليمان شفيق «لقد مرت مصر بالكثير من التمزق والحروب الدينية مثلًا في الانتقال من عبادة آمون إلى التوحيد لإخناتون، ومحاولات عنيفة من الكنيسة البيزنطية لتوحيد المذهب بالعنف والاضطهادات كما اهتزت وشائج الحضارة نحو أربعمائة عام في العصر العثمانى والمملوكى والآن المد الوهابى الذى هز الهوية المصرية من جوانب مختلفة ولا ننسى الطائفية المذهبية بين الطوائف المسيحية والذى يصل إلى إعادة المعمودية. هل هذه المراحل استثناء أم أنها القاعدة؟» هنا وبدايةً نقول إن الحضارة المصرية هى الحضارة المتفردة التى استوعبت هذه التعددية دون الحضارات الأخرى وذلك لأن هذه الحروب الدينية على مر التاريخ المصرى لم تكن نتاج صراع دينى مؤسس على دين في مواجهة دين آخر بقدر ما كان صراعا بين ما يطلق عليهم رجال الدين أو المستفيدون من دين في مواجهة رجال دين ومستفيدين من دين آخر جديد ووافد، ولذلك وجدنا أن الصراع والحروب الدينية بدأت وانتهت على أرضية سياسية مصلحية وفى الجانب الآخر تم التعامل مع الدين الجديد والوافد على أرضية الاقتناع والإيمان بالدين الجديد حتى ولو رافق ذلك الإيمان ممارسات لا علاقة لها بجدية الإيمان واختيار العقيدة، فالحروب الدينية بين عبادة آمون وتوحيد إخناتون كانت صراعًا كهنوتيًا مصلحيًا يحاول فيه المستفيدون من آمون التمسك بمصالحهم والحفاظ عليها. يقول برستيد «إن إخناتون هو أول صاحب نظرية في التوحيد، وكان يحاول إزاحة كمية كبيرة من الخرافات، نجح علميًا في إصلاح مجتمعه والقضاء على العديد من الأساطير المتوارثة مثل القول إن النيل هو أوزوريس وأن الفيضان يرجع إلى غضب الآلهة «أصبح التدين عند إخناتون عقلانيًا وليس مجرد إرث لتقاليد قديمة، فظهر للناس بخلاف التقاليد الراسخة فكان شديد التواضع بنفيه عن نفسه أى شبهة قداسة أو تعظيم ليؤكد بشريته، هنا هل هذه السياسة وتلك الممارسات يمكن أن يقبلها من يعتبرون أنفسهم آلهة يستعبدون الشعب باسم الدين؟ بالطبع لا. ولكن الإشكالية أن جمهور المتدينين دائما ما يخضعون لهؤلاء الآلهة تحت مسمى تقديس غير المقدس، ولذا لم تكن الحروب الدينية في مصر القديمة دائمة وثابتة بل استثنائية، وهنا نريد أن نذكر أن ما حدث مع إخناتون بديانته الجديدة قد حدث مع ديانة مصر القديمة مع هيباتيا تلك المصرية الجميلة العالمة الفيلسوفة، فلم تتحمل الكنيسة المسيحية حتى القرن الثالث أن تكون هناك ديانة قديمة تنافسها في الساحة، وجدنا البطريرك يأمر بسحق وسحل وقتل الجميلة المصرية وباسم الدين، وظل الحال مع الكنائس المصرية المسيحية في ظل ذلك الصراع على السلطة والكراسى وباسم المسيح فكانت حروب وقتل. وفى ظل دولة الخلافة التى اهتزت وشائج الحضارة معها كانت هناك تفرقة بين المصرى المسلم والمسيحى ولكن الأهم كانت هناك تفرقة بين المسلم المصرى والمسلم الشركسى والمملوكى والتركى بل كان هؤلاء يدفعون ما يشبه الجزية التى ظلت مصر تدفعها لتركيا حتى بعد قيام ثورة 1952، أما المد الوهابى والذى تحول على أرضية دينية بهدف سياسى كالعادة واستطاع أن يخترقنا بعاداته وسلفيته وأفكاره الرافضة للآخر وجدنا مصر وشعبها الحامل لجينات الشخصية المصرية الحضارية والذى يسير في ضميرها الجمعى هذه التعددية التاريخية «فرعوني، يوناني، روماني، مسيحي، إسلامى» يسقط ذلك التيار وأتباعه حتى تعود التعددية المصرية إلى وضعها الأصلي، إذن بالرغم من هذه المعارك التى أخذت شكل الدين وهى سياسية مصلحية وبالرغم من عصور الاضطهاد للآخر باسم الأرضية الدينية ظلت مصر محافظة على معدنها الأصيل وحضارتها العميقة وشخصيتها المتفردة فلم تظل التعددية الدينية المصرية للمصريين «مسيحيين ومسلمين ويهود» فقط ولكن خلقت نموذجًا فريدًا بتعددية تخطت الجغرافيا وتجاوزت الجنسيات واستطاعت مصر أن تصهر وتدمج ثلاث هجرات جماعية واثنين وخمسين غزوة حربية فأصبحوا مصريين بالتجنس والهوى والتاريخ.
يحدث ما يحدث من مشكلات وفتن ومواجهات ولكن يخرج المعدن المصرى والشخصية المصرية وقت الشدائد وعند اللزوم وأحداث التاريخ كثيرة وتشهد بأن التعددية هى الأصل فتذوب صبغات التشتت والتمزق والفتن وتظهر مصر والمصريون بتاريخهم وحضارتهم، ولولا أن هذه التعددية أصيلة وليست استثنائية ما بقى المصرى المسيحى مع المصرى المسلم طوال هذا الزمن بالرغم من الهنات والأحداث الطائفية التى يصنعها المستفيدون والمتاجرون باسم الدين، كل دين. حفظ الله مصر وشعبها العظيم لكل المصريين بكل تعدديتهم.