تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تحكى الأساطير الصينية عن رجل عجوز كفيف، يعيش حياةً سعيدةً مبهجة، فهو يتمتعُ بثراءٍ كبير، ويحظى بزوجة حنون مخلصة، تهيم به حبًا، تشنف آذانه يوميًا بأجمل عبارات المديح والغزل، تعشق كلَّ خصاله؛ الرديئة منها والحسنة، هى لا ترى فيه شيئًا رديئًا، كل ما فيه حسنٌ، تواظب على تقديم أشهى المأكولات له. رُزِقَ بابن وحيد يحنو عليه كثيرًا، ويداوم على أن يربت على كتفه، ويصر على تنظيف ملابس والده بنفسه. ولأنه رجل تقى وصالح، وما بينه وبين الله عمار؛ كان كثيرًا ما يتوجه إلى الله متضرعًا أن يرد إليه بصره، فقط من أجل أنْ يتمكنَ من إسعاد زوجته المخلصة الحنون، وابنه البار، نظير ما بذلاه من جهدٍ فى إسعاده.
واستجاب المولى سبحانه وتعالى لدعاء عبده الصالح، فرد الله إليه بصره. وكانت المفاجأة أنه اكتشف- ويا لهول ما اكتشف- أن زوجته تخونه مع شابٍ يفيضُ حيويةً، ويصغرُها فى السن، كانت عبارات العشق والغزل والوله التى تتلفظ بها الزوجة موجهةً إلى عشيقها الذى كان موجودًا دون أن يراه الزوج الكفيف، ودون أن يستشعر وجوده، ولم يدرك، بسبب فقده حاسة البصر، أن هذه العبارات ليست موجهة له، وإنما موجهة للعشيق. كانت تقدم له الطعام لتدسَّ بداخله المنوِّم.
اكتشف أيضًا أنَّ ولده الوحيد لم يكن يربت عليه، بل كان يضع التراب على ملابسه!! ولم يكن ينظف ملابسه، بل كان يسرق ماله!!
تعجز قواميس الدنيا عن وصف حالة الحزن واليأس والبؤس التى اعْتَرَتِ الزوج المخدوع. انهار الرجل تمامًا، وبكى حزنًا ويأسًا وغمًا، وتضرع إلى الله أنْ ينعم عليه- مرة أخرى- بفقدان البصر، ليعود ضريرًا كما كان!! فضرير سعيد.. أفضل مئات المرات من مبصر تعس!!
هكذا حكت الأسطورة الصينية، وهكذا انتهت!!
استمتعت بقراءة هذه الأسطورة الصينية، وتساءلت بعد أن فرغت من قراءتها:
هل حقًا اتساع المعرفة يزيد من تعاستنا؟ اتساع المعرفة.. هل يحقق لنا سعادة أم شقاء؟ بؤس الإنسان.. هل مصدره حب الاستطلاع الفطرى لدينا وسعينا الدائم لتحصيل المعرفة؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغى أن نميز بين مجالين للمعرفة، معرفة الوضع العام للمجتمع والكون، والمعرفة المتعلقة بوقائع حياتنا اليومية وتفاصيلها.
جوهر الأسطورة الصينية يتعلق بالنوع الثانى (المعرفة المرتبطة بوقائع حياتنا اليومية وخباياها). هل يحق لنا أن نكون على إلمام بوقائع حياتنا اليومية؟ وهل معرفتنا بتلك الوقائع أفضل أم جهلنا بها؟
زوج تخونه زوجته مع رجل آخر؟ هل الأفضل بالنسبة لهذا الزوج أن تتواصل هذه الخيانة وتستمر من خلف ظهره، ويظل هو سعيدًا بزوجته وتظاهرها بالشرف والعفة، وادعائها أنها مخلصة له وتحبه حبًا جمًا؟ هل هذا أفضل، أم مواجهته للواقع البائس، واتخاذ موقف حاسم، ووضع حد لهذه المهزلة؟ صحيح أن الوضع الأمثل أن تكون الزوجة مخلصة حقًا لزوجها، ويكون الزوج مخلصًا حقًا لزوجته. لكن ماذا نفعل إذا كان الواقع مريرًا؟ هل الأفضل أن ندفن رءوسنا فى الرمال (كالنعام)، أم نواجه الواقع ونسعى إلى تغييره للأفضل؟ هل إذا توقف هذا الزوج المغدور به عن محاولة معرفة حقيقة خيانة زوجته له، هل توقفه عن المعرفة سيؤدى إلى توقف زوجته عن خيانته؟ أبدًا، قد تتمادى فى توثيق علاقتها بعشيقها، وسيظل كل الناس -باستثناء الزوج- على علم ومعرفة بهذه الخيانة، وسيظل هو فى نظر الناس «خرونج» على حد تعبير عادل إمام؟
أيهما أفضل إذن أن يعرف ويتخذ قرارات حاسمة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، أم يظل على جهل بما يحدث؟
مثال آخر: أحد الأبناء وهو طالب جامعى، صادق مجموعة فاسدة من الشباب تحترف السرقة، مما أدى إلى انخراط الابن معهم فى ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون. والسؤال هو: هل الأفضل أن يعلم الأب ما حدث لابنه ويحاول إنقاذه من براثن هذه العصابة، أم يواصل الابن سلوكه الإجرامى، ويظل الأب فى حالة جهل وصفاء ذهنى وراحة بال؟
الوضع المثالى طبعًا أن يكون الأبناء بَرَرة بالوالدين، ولا يرتكبون أفعالًا مشينة. لكننا نتساءل عن مواجهة الغش والخيانة والخداع والإجرام، والواقع البائس الذى أشارت إليه الأسطورة.
هذا فيما يتعلق بمعرفة وقائع حياتنا اليومية.
أما فيما يتعلق بمعرفة الوضع العام للمجتمع والكون. فهل إدراكنا لتخلف مجتمعاتنا، وفساد حكّامنا، وسعينا من أجل تنوير الجماهير لتغيير الناس وتوعيتهم بأمراضنا الاجتماعية أفضل، أم أن نكون نحن جزءًا من هذه الجماهير المغيبة أفضل؟
إن قطاعات كبيرة من الناس فى بلادنا تؤمن إيمانًا راسخًا بما ورد بمضمون تلك الأسطورة الصينية، الدليل على صحة ما أقول، تلك الأمثال الشعبية التى ترددها ألسنة الأمهات عندنا، إذ نجد الأم تتوجه بالدعاء إلى الله، قائلةً: «روح يا ابنى ربنا يكفيك شر الفكر» الفكر والتفكر وإعمال العقل هو «شر» فى ثقافتنا الشعبية!! ومثل شعبى آخر يقول: «من تفكر.. فقد تعكر». لو أن المضمون الذى أرادت هذه الأسطورة إيصاله لنا صحيح، وهو أن الجهل أفضل من المعرفة، بسبب ما يترتب على المعرفة من شقاء وتعاسة، وما يجلبه الجهل من سعادة وسرور، لو صح ذلك لكان أى «حمار» أفضل وأسعد من «نيلسون مانديلا» مئات المرات.