أحدث طه حسين ثورة عقلية لا في مجال الأدب وحده، بل في كافة مجالات حياتنا الثقافية. لقد أدرك عميد الأدب العربي، منذ الوهلة الأولى، أن هذا النهج من الشك الذى ينتهجه قد يؤدى إلى تغيير التاريخ، أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ. وقد ينتهى به المطاف إلى الشك في أشياء لم يكن مباحًا الشك فيها.
ونحن من جانبنا نقول: لو أن العالَم العربى كان قد احتفى بكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، ورحب به الترحيب الذى يليق بمثل هذا البحث، أو على الأقل لم يهاجمه أصحاب العقول المعتمة، ولو لم يكفروا صاحبه، أقول لو كان قد حدث ذلك لتغير الوجه الثقافى للأمة العربية تغيرًا جذريًا نحو الأفضل. وكنا قد تجنبنا هذه الحالة المتدنية من التخلف التى نحن عليها الآن!!
لكن نحن للأسف الشديد نحكم على ما لا نعرف!! إننى أود أن أطرح سؤالًا على القارئ الكريم: هل قرأت كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»؟
لماذا أطرح مثل هذا السؤال؟ لأننى طرحته منذ أيام قليلة على الحضور في مؤتمر شاركت فيه بورقة بحثية، عنوانها: «النزعة النقدية التنويرية عند طه حسين»، كان الحضور طلاب جامعيين وأساتذة وباحثين، يربو عددهم على 300 فرد، وسألت: من منكم قرأ كتاب «في الشعر الجاهلي»؟
فوجئت بأن فردًا واحدًا فقط هو الذى رفع يده!! وحين طرحت سؤالًا آخر: من منكم ظن في لحظة ما، أو ما زال يعتقد أن طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» قد هاجم الدين الإسلامي، وشكك في مصداقيته؟ فوجئت بأيادٍ كثيرة ترتفع!!
نحن إذن نحكم على كتب لم نقرأها!! ونسارع بتكفير أصحابها دون روية، انسياقًا وانصياعًا لأقوالٍ وأفكارٍ ترددت، أو ما زالت تتردد، لسان أُناسٍ أصحاب غرض أو مصلحة أو عقيدة فاسدة، نردد ما يقولون، ونؤمن بصحة ما صدر عنهم دون إعمال عقل!!
ومهما يكن من شيء؛ فإن الدكتور طه حسين انتهى «إلى ما يشبه اليقين بأن الكثرة المطلقة بما نسميه شعرًا جاهليًا لا تمت للجاهلية بصلة، وإنما تم انتحالها واختلاقها بعد ظهور الإسلام، فالشعر الجاهلى هو في حقيقته شعر إسلامي، وهو يمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما يمثل حياة الجاهلين». (طه حسين، في الشعر الجاهلي، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926، ص 7). هذه هى القضية الرئيسية التى يعرضها الكتاب، ويحاول أن يثبت صحتها المؤلف.
معنى هذا أن ما نقرأه على أنه شعر أمرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من نظم هؤلاء الناس، ولا صلة لهم به، ولا صلة له بهم.
ذهب طه حسين إلى أن العصر الجاهلى السابق على ظهور الإسلام، يمكن وصفه وتصويره وتصوره تصورًا واضحًا قويًا صحيحًا، ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى. (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 8)
اقتضى توصل طه حسين إلى نظريته القائلة، أن «الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء»، أن يتحدث في طائفة مختلفة من المسائل. فكان عليه أن يحدثنا عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية بعد ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح، وما بين هذه الحياة والشعر من صلة. وأن يتحدث عن حال أولئك الناس الذين غُلبوا على أمرهم بعد الفتح في بلاد فارس وفى الشام والجزيرة والعراق ومصر، وما بين هذه الحال ولغة العرب وآدابهم من صلة. وأن يتحدث عن نشأة العلوم الدينية واللغوية وما بينها وبين اللغة والأدب من صلة. وأن يتحدث عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده، وما بين اليهود هؤلاء والأدب العربى من صلة. وأن يتحدث بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وما بين هذا كله والأدب العربى والشعر العربى من صلة. وأن يتحدث عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام، وكان لها أثر قوى جدًا في الشعر الجاهلي، وفى الشعر العربى الذى انتُحل وأضيف إلى الجاهليين. وهذه المباحث التى ذكرناها ستنتهى كلها إلى تلك النظرية التى قدمها طه حسين: وهى أن الكثرة المطلقة مما نسميه الشعر الجاهلى ليست من الشعر الجاهلى في شيء.
لم يقف طه حسين عند هذه المباحث؛ بل جاوزها إلى نحو آخر من البحث أقوى دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها، ذلك هو البحث الفنى واللغوي. وانتهى به البحث الفنى واللغوى إلى أن هذا الشعر الذى ينسب إلى أمرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية أو الفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء. وانتهى طه حسين إلى نتيجة مؤداها أنه لا ينبغى أن يُسْتَشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله، فهى إنما تكلفت واخُترعت اختراعًا ليتشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه.
يؤكد طه حسين عربية القرآن، فيقول: إننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربى لا تقبل لغته شكًا ولا ريبًا هو لذلك أوثق مصدر للغة العربية فهو القرآن. وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلى، بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن.
يقول طه حسين متوجسًا: إن الذين يقرأون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفى نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبى الذى نردده في كلِّ موضع من مواضع الكتاب. وقد يشعرون مخطئين أو مصيبين، بأننا نتعمد الهدم تعمدًا ونقصده في غير رفق ولا لين. وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربى عامةً وعلى القرآن الذى يتصل به هذا الأدب خاصةً. فلهؤلاء نقول إن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غيره، بل لأنه قد آن للأدب العربى وعلومه أن تقوم على أساس متين. وخيرٌ للأدب العربى أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها، من أن يبقى مثقلًا بهذه الأثقال التى تضر أكثر مما تنفع، وتعوق عن الحركة أكثر مما تمكن منها. (طه حسين، في الشعر الجاهلى، ص 182)