بعد رحلة علمية ممتدة، أجرت من خلالها عشرات البحوث العلميّة والميدانيّة، فى مجال دراسة الثقافة الشعبيّة والأنثروبولوجيا وعلم الفولكلور، تعلن أستاذة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية البنات جامعة عين شمس الدكتورة سعاد عثمان فى مقدمة كتاب «الطوائف الأجنبية فى مصر.. البهرة نموذجًا».. بهذا العمل المتواضع فى نهايات مشوار من العمل الميدانى والبحثى جاوز الأربعين عامًا. عاشت سنوات منها بين شوارع وحوارى وأزقة مدينة القاهرة، ملاحظة لواقع المجتمعات المحلية المصرية، وراصدة لتفاصيلها عمومًا ولثقافتها الشعبية على وجه الخصوص.
والكتاب صادر ضمن سلسلة «الثقافة الشعبية» بالهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخرا. ويسعى الكتاب إلى محاولة التعرف على تاريخ هذه الطائفة الأجنبية، ورصد بعض الملامح الثقافية لحياتها وواقعها، اعتمادا على أدوات بحثية يخبرها الأنثربولوجيون جيدا مثل الملاحظة، وإجراء المقابلات، والتصوير الفوتوغرافى، والاعتماد على المدونات والمصادر المطبوعة وغيرها.
وعرفت دار الإفتاء المصرية طائفة البُهرة بأنهم «إسماعيلية مستعلية يعرفون بالإمام المستعلى ومن بعده الأمر ثم ابنه الطيب، ولذا هم يسمون بالطيبية. وهم إسماعيلية الهند واليمن تركوا السياسة وعملوا بالتجارة، فوصلوا إلى الهند فاختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة. وهم يقولون إن الإمام الطيب دخل الستر عام 525 هجرية، والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يعرف عنهم شيئا حتى أن أسماءهم غير معروفة، وعلماء البهرة أنفسهم لا يعرفونهم، وهو ما تأكد من تتبع ظروف نشأتهم.
كلمة «بُهرة» تنطق بضم الباء، وقد تعددت معانيها؛ فقيل إنها الوسط من كل شىء أو الوسط من الطريق، إلا أن معظم التعريفات أكدت أن الكلمة تعنى «التجارة» باللغة الجوجارتية، التى ذكرت فى ذلك أن «الدعاة الفاطميين حين نزلوا على الساحل الغربى للهند (ساحل بحر العرب) سألهم أهل الهند: من أنتم؟ قالوا: جئنا للتجارة والتجار فى اللغة الهندية المحلية، كانوا يسمون «وهرة»، وبلغة الهند الواو والباء مترادفتين فسموا «البهرة»، فاسمهم مشتق من اللغة «الجوجاراتية» السائدة فى غربى الهند. وأضافت بعض التعريفات أن الكلمة تطلق على التجار وهم ينشرون الدعوة أثناء عملهم بالتجارة، وأنها تطلق على جماعة كبيرة من التجار ينتشرون فى الهند وماليزيا ونيروبى ودار السلام وزنجبار واليمن وباكستان ومصر.
وللبهرة لغة خاصة هى اللغة الجوجاراتية المعربة، وهى اللغة الرسمية للبهرة الداودية – هم البهرة الهنود المنسوبون لداود بن قطبشاه– وهم يستخدمون لهجة خاصة من هذه اللغة ممزوجة بكلمات عربية وأخرى فارسية قليلة، وتكتب مؤلفاتهم بالأحرف العربية، ويسمونها حينئذ «لسان الدعوة».
أصبح للبهرة تنظيم عالمى، وإدارة مركزية يترأسها الداعى المطلق، وتقع المكاتب المركزية لهذا التنظيم فى «بدرى مهال» فى بومباى بالهند، حيث يوجد كبار أفراد الهرمية الخاصة بالدعوة، بمن فيهم إخوة «الداعى المطلق» على رأس هذا التنظيم، وهو من يختار ويعين كافة مساعديه بتدرجاتهم المختلفة بدءا من المأذون، فالمكاسر، فالمشايخ، ثم الوكلاء، والملا. كما يحرص على أن تربطه بالتدرجات العليا كالمأذون، والماكسر، ووكلاء المدن المهمة علاقات قرابية، بينما يشترط فى المشايخ وباقى الوكلاء أن يكونوا ممن تلقوا دراستهم فى جامعتهم «السيفية»، ويضاف إلى شروط المشايخ أن يكونوا ملمين بالعقائد الإسماعيلية، واللغة العربية.
بدا توافد البهرة إلى مدينة القاهرة فى السبعينيات من القرن العشرين فى عهد الرئيس أنور السادات، وزادت أعدادهم فى الثمانينيات. ومنذ وصولهم إلى أرض مصر أقاموا فى منطقة القاهرة الفاطمية، بعدها أصبحوا يفضلون الإقامة فى أحياء محددة من مدينة القاهرة، فى مقدمتها حى المهندسين. ويمتلك البهرة فى حى المهندسين فيلا مملوكة لسطانهم بنيت على الطراز الإسلامى– الفاطمى– ومبنى من أربعة طوابق يستخدم مقرا إداريا للطائفة، ومقرًا آخر لاحتفالاتهم. وتتركز إقامة البهرة فى عدد آخر من المربعات السكنية بحى المهندسين، من أهمها المربع الذى تحده شوارع الثورة والبطل أحمد عبد العزيز، وجامعة الدول العربية، ومحى الدين أبو العز.
للبهرة بيوت خاصة يطلقون عليها «جماعات خانا»، وهى أماكن تجمع مخصصة لعقد اللقاءات العامة وإقامة الاحتفالات الدينية للطائفة، وتتولى إدارتها لجان من كبار البهرة يعينها العامل فى كل جماعة. ويقع مقر احتفالات البهرة أسفل عمارة مكونة من 13 طابقا، على يسار مدخلها المرتفع عن الأرض بضع درجات. ولهذا المقر باب خشبى يخلو من أى لافتات تعريف، ولا يدخله إلا البهرة والعاملون لديهم. وقد سمح لى بدخوله بصعوبة شديدة. وبعد الدخول من بابه توجد طرقة طويلة مثبت على حائطها الأيسر دواليب لحفظ الأحذية. وفى نهايتها مكان فسيح مغلق– منور أو جراج– بعرض العقار فرشت أرضيته بالموكيت. وعلى يسار الداخل إلى القاعة توجد دورات مياه، وقاعة مربعة مخصصة للنساء، وعلى جهته اليمنى مطبخ كبير يحتوى على مواقد ضخمة، وأوانى للطعام، وأمامه قاعتان أكبرهما مخصصة لجلوس وصلاة الرجال. ويحتوى المقر على عدد من أجهزة التكييف الضخمة، ومكنسة كهربائية ضخمة، وأدوات نظافة، وشاشات عرض، وكمبيوتر. ومن الاحتفالات التى تقام فى هذا المقر الاحتفال بليلة عاشوراء، والذى يطلقون عليه «العيد الكبير».
وللحديث بقية..