الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النزعة النقدية عند طه حسين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أراد طه حسين أن يصطنع في الأدب المنهج الفلسفى، الذى استحدثه الفيلسوف الفرنسى ديكارت Descartes (1596 – 1650)، للبحث عن حقائق الأشياء في مطلع العصر الحديث، وخصوصًا تلك القاعدة الأساسية في ذلك المنهج، والتى تدعو إلى أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا. وقد رأى طه حسين أن هذا المنهج الذى سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة حين ظهوره، قد كان من أخصب المناهج وأقومها، وأحسنها أثرًا، وأنه قد جدَّد العلم والفلسفة تجديدًا، وأنه قد أدى إلى تغيير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذى يمتاز به هذا العصر الحديث. 
لقد اصطنع طه حسين هذا المنهج حين أراد أن يتناول الأدب العربى القديم وتاريخه، مستبعدًا كل ما قيل فيهما من قبل. ويدعونا طه حسين ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمى الصحيح. 
كان طه حسين معجبًا غاية الإعجاب بالمنهج الديكارتي، فقد رأى أن هذا المنهج لم يكن خصبًا في العلم والفلسفة فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضًا. وكان مأخوذًا بالمنهج الديكارتي، إذ تأثر به وتمثله جيدًا، واصطنعه في أغلب ما كتب، وبخاصةٍ في كتابه الذى أثار ضجة كبيرة حين صدوره، وهو كتاب «في الشعر الجاهلي» الذى صدر عام 1926. 
إن فكر طه حسين وممارسته للمنهج العقلانى التنويرى، إنما يشكل إرثًا لا غنى عنه لكل التيارات الفكرية العربية المعاصرة. فقد أراد أن يدمج التراث العربى بالتراث العالمي، وأن يُخضع الأدب العربى وتاريخه لقوانين المنهج العقلي، كما سعى إلى فتح حوار مؤسس على وعى مطابق لواقعه بمختلف تياراته الفكرية، مستهدفًا الوصول إلى ديمقراطية تعددية في مجالات التعليم والفكر، مدافعًا عن حقوق الإنسان، وإحياء المجتمع المدني. لقد أدرك عميد الأدب العربى أن اصطناع المنهج العلمى في كافة مناحى حياتنا هو مطلب ضرورى- أو هكذا يجب أن يكون- لكل تيارات الفكر العربى، لتتمكن المجتمعات العربية من تخطى حالة التخلف المتمثلة في الثلاثي البغيض: «الفقر والجهل والمرض»، واستشراف مستقبل أفضل. 
وُلِدَ طه حسين في ظل مجتمع متخلف، فقد وُلِدَ بقرية صغيرة في صعيد مصر عام 1889م، وكان عليه أن يدفع ضريبة هذا التخلف. إذ إن هذه البيئة المتخلفة سلبته بصره، وعندما اشتد عوده، قضى حياته كلها مكافحًا ضد ما يعترى هذا المجتمع من جهل وتخلف. إن فقدان طه حسين لبصره كان عاملًا مهمًا من عوامل إقباله الشديد على التعلم. وإذا كانت بيئته المتخلفة قد نالت منه منذ نعومة أظافره فسلبت منه النظر، فإنه عندما اشتد عوده نال منها أشد مما نالت منه، إذ انتصر على قوانينها البلهاء بأن كان أهم من امتلك بصيرة نافذة خلال القرن الماضى، على امتداد الرقعة العربية كلها. فسلب من البيئة العربية تعالى ضروراتها واستعصاءها بنورانية العقل العلمي، فأخضع إرثها وكل ظواهرها الثقافية لدقة المنهج العلمى وصرامته. (د. عبد الرزاق عيد، طه حسين- العقل والدين، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1995، ص ص 14- 15).
إن ما أنجزه طه حسين لم يكن مجرد تعبير عن حركة فكرية جديدة في الدراسات الأدبية والتاريخية، بقدر ما كانت كذلك تعبيرًا عن فكر نهضوى اجتماعي، وهو امتداد جَسُور لفكر الطهطاوي، فكر النهضة الأولى منذ منتصف القرن التاسع عشر. والحق أن منهج طه حسين الفكرى منذ البداية، حتى في صورته الصارمة الأولى، كان في جوهره محاولة للتصدى لمناهج البحث الأدبى والتاريخى والاجتماعي المغرقة في أحكامها الذاتية والعاطفية، سعيًا إلى إقامة مناهج البحث على قاعدة موضوعية علمية راسخة. 
لقد ظلم طه حسين نفسه، كما ظلمه من تابعه من الكتَّاب والدارسين عندما حدد منهجه في البحث وحصره في المنهج الديكارتى فقط. 
أخذ طه حسين من المنهج الديكارتى نقطة البداية الإجرائية، أى الشك المنهجى فحسب، في حين أن المنهج الديكارتى يمتد بعد ذلك إلى عناصر ومستويات أخرى يغلب عليها طابع الحدس العقلى والاستدلالات المجردة، أما منهج طه حسين؛ فإنه يقوم على محاولة تحديد العلاقة السببية الموضوعية بين ظواهر الفكر وحقائق الواقع الاجتماعي الموضوعي. (محمود أمين العالم، منهج طه حسين في دراساته التراثية والتاريخية، مجلة أدب ونقد، العدد 41، القاهرة، السنة الخامسة، أكتوبر 1988، ص 17).
كان طه حسين بعيدًا كل البعد عن فكرة إلغاء الأصول المكونة لواقع التراث العربي، أى كان بعيدًا كل البعد عن فكرة حذف الواقع التاريخى الموضوعى حذفًا كاملًا من العالَم العربي، وإنما الذى كان يريده ويرغبه هو إنتاج معرفة جديدة معاصرة لهذا الواقع التاريخى الموضوعي، متحررة من المعرفة السلفية له، وخاضعة لمناهج البحث العلمى فقط. إن منهج طه حسين لم يكن منهجًا لدراسة التراث والماضى التاريخى فحسب، ولم يكن القصد منه مجرد دراسة لماضٍ قد ولى، بقدر ما كان توظيفًا عقليًا وعلميًا لفهم قضايا الحاضر، وتنمية روح العقلانية والموضوعية والنقد، دفاعًا عن الحرية والعدل والخير والتقدم. (العالم، ص 22). 
كان عميد الأدب العربى خير ممثل للتيار الليبرالي، بفضل ما تميز به من مشاركة إيجابية في قضايا أمته، بالفكر والعمل، كاتبًا مفكرًا، وأستاذًا جامعيًا، وروائيًا محرضًا، وعميدًا مستقلًا، ووزيرًا للمعارف. ما أحوجنا دائمًا أن نجدد معرفتنا بهذا الصوت العقلانى الفعَّال الجسور، صوت طه حسين، وبخاصةٍ في هذه الأيام التى تتعرض فيها ثقافتنا لمحاولات ظلامية تسعى لإطفاء روح العلم والموضوعية. 
إن المنهج العقلانى الذى تركه لنا طه حسين يتصف بالجدَّة والثراء، صحيح أنه لا يمثل نهاية المطاف في طريق تطورنا الفكري، ولكنه شعاع ضوء في النفق المظلم؛ يهدى خطواتنا للخروج من الظلام إلى النور، ويهدينا إلى طريق الحق والعدل والحرية.