الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تبنى الأمم باحترام الكلمة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كم من قصص واقعية في حياتنا أجمل وأكثر إلهامًا من قصص الخيال.. واحدة من تلك القصص، حدثت عام 1988 في أرمينيا التابعة آنذاك للاتحاد السوفيتى السابق، ورغم الأجواء المؤسفة التى حدثت فيها القصة، إلا أنها تحرك داخل النفوس البشرية كثيرا من القيم التى نكاد نفقدها، وتولد طاقة إيجابية يمكن أن تعيننا في الأوقات العصيبة مهما بلغت قسوتها.. ففى ظهر يوم السابع من ديسمبر، وبينما كان سكان أرمينيا يعيشون يوما عاديا هادئا في أعمالهم ومنازلهم، مطمئنين على أبنائهم في المدارس والجامعات، قبل أن ينتهى اليوم الدراسي بدقائق قليلة، فوجئ الجميع بزلزلة الأرض من تحت أقدامهم، وفى أقل من أربع دقائق، كان أغلب المبانى قد انهار على من فيه، نتيجة للزلزال العنيف الذى أزال نحو تسعين بالمائة من معالم المدينة.. وراح ضحيته نحو ثلاثين ألف شخص، بالإضافة لنحو مائة وثلاثين ألفًا من المصابين.. ووسط هذا الكابوس الذى عاشه الأحياء منهم، ورائحة الموت وصوت الصراخ والبكاء، كان هناك أب منهار يبكى ابنه، أمام أنقاض إحدى المدارس التى سقطت على من فيها، وفجأة تذكر وعده لابنه الصغير، الذى كان دائما ما يردده له في كل المواقف: «ستجدنى دائما بجانبك، مهما كان الأمر».. قام الأب ونفض عن روحه اليأس والإحباط، وقرر تنفيذ وعده لابنه طامعا في رحمة ربه.. بدأ يفكر ويحسب بشكل تقريبى موقع الفصل الذى كان ابنه جالسا فيه، حتى يعلم أين موقعه تحت الأنقاض.. وهرول نحو المكان، وبدأ يحاول رفع الأنقاض وإزالة الركام بيديه، دون أجهزة أو أدوات، وهو ينادى على ابنه، كى يسمعه ويتأكد أنه معه وسيفعل كل شيء لأجله.. ظن من حوله أن الصدمة أصابته بالجنون، وحاولوا إثناءه عمَّا يفعله لأنه دون جدوى، لكنه ظل متمسكا بالأمل وكان يطالبهم بمساعدته، لكنهم جميعا كانوا مصابين بالإحباط، ومتيقنين بأن الأطفال قد ماتوا تحت الأحجار.. طلب المساعدة من رجال الإنقاذ أيضا، ورغم تأثرهم ورثائهم لحاله، وتحذيرهم له بالابتعاد عن المكان حتى لا يتعرض للخطر، تركوه وانصرفوا بعيدا، فقد كان الجميع يدرك أن الأطفال ماتوا ولا فائدة من تلك المحاولات اليائسة.. ظل الأب لساعات طويلة بلا كلل أو ملل، يرفع الأحجار الثقال أو يحاول تفتيتها حتى يتمكن من رفعها، وينادى ابنه بين الحين والآخر حتى يسمعه.. وبعد أكثر من يوم كامل من المجهود الشاق، وبعد أن أضنته محاولات رفع أحد الأحجار الثقيلة، تمكن من نزعه، ليفاجأ بتجويف ضخم خلف الحجر، ويصرخ بأعلى صوته باسم ابنه.. حتى أتاه اليقين وسمع صوتا بعيدا: «أنا هنا يا أبي».. غالب الأب دموعه وبدأ يزيل الركام بسرعة أكبر وحماس مضاعف.. وهو يتحدث لابنه ويطمئنه، أما الابن فقال له: «لقد أخبرت أصدقائى أنك ستأتى لأنك وعدتني».. أنقذ الأب ابنه وثلاثة عشر طفلا معه، والذين كانوا سيموتون، ولكن ليس بسبب الزلزال أو الحجارة، بل بالإحباط واليأس والاستكانة التى أصابت الأسر وفرق الإنقاذ، وكل من شاهد الأنقاض ولم يحرك ساكنا!.. لا أعلم كيف شعر الأطفال الذين أنقذهم هذا الأب، ولم يجدوا أسرهم حولهم تساعد في إنقاذهم؟.. أو كيف شعرت باقى الأسر التى لم تجد أبناءها ضمن الثلاثة عشر طفلا؟.. وكيف شعر من حاولوا إثناء الأب عن محاولاته، ومن وقفوا مستسلمين يائسين دون محاولة إنقاذ باقى الأرواح تحت الأنقاض؟! هل استكانت ضمائرهم؟ أم شعروا بأنهم ربما يكونوا قد قتلوا أرواحا أخرى بالتقصير واليأس!.. هذا الأب جسد الآية الكريمة: «وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ».. فتمسك بالإيمان والأمل، وقبلهم بالوعد، فلم يفرط أو يخن وعده لابنه، ورسخ داخله وداخل كل من رأى قصته بقلبه أن الكلمة شرف.. فما أجمل الوفاء بالوعد، وما أجمل الثقة التى تولد الطمأنينة مهما كانت أحداث الحياة وصراعاتها.. يقول الروائى الإنجليزي شارلز ديكينز (1812- 1870): «أشياء في حياتك لا تفعلها، فقد الثقة، وكسر الوعد، وتحطيم العلاقات وكسر القلوب، فالوعد إذا كُسر لا يُصدر صوتًا؛ بل الكثير والكثير من الألم».. فكسر الوعد وإن كان لا يعاقب عليه القانون، ولكنه يظل جريمة تزدريها النفس السوية، حتى وإن كنا في زمن فقد الكثيرون فيه شرف الكلمة والوعد والعهد، واحتالوا على النفوس بالكلمات والعهود الزائفة.. وظنوا أن الكذب فهلوة، والنفاق ذكاء، واستباحوا الغش واغتصاب الحقوق المادية والمعنوية بالتدليس والخداع! وقتلوا الثقة والمروءة والأمان.. فليتنا نستعيد القيم التى فقدناها ونسترد السمات التى دنسناها، ونرسخ داخل المجتمعات أن الكلمة شرف يجب أن يصان، بدلا من المفهوم المشوه لدينا للشرف، والذى يختزله البعض في الجسد فقط!!.. وهو ما وصفه العالم الدكتور مصطفى محمود بأن: «الشرف عندنا معناه صيانة الأعضاء التناسلية.. فإذا ارتكبت كل الدنايا والموبقات الموجودة في قاموس الرذائل من ألفه إلى يائه.. وظل حرمك مصونا.. فأنت شريف مائة في المائة»!