الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحرية والثقافة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل الرغبة في الحرية شيء فطرى في الطبيعة الإنسانية أم هى نتاج مجموعة من الظروف والأحوال الخاصة؟ هل السعى نحو الحرية يستهدف الحرية لذاتها أم بوصفها وسيلة لتحقيق أشياء أخرى؟ هل ما يترتب على الحرية من مسئوليات يدفع معظم الناس للتنازل عنها تخففًا من المسئوليات؟ هل الحرية تحقق سعادة للإنسان؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الفيلسوف الأمريكى «جون ديوي» John Dewey (1895 – 1952) في مستهل كتابه «الحرية والثقافة»، والذى قام بترجمته إلى العربية الصديق الدكتور أحمد الأنصاري، وراجع الترجمة المفكر المصرى الكبير أ. د. حسن حنفي. صدرت الترجمة عام 2013 عن «مركز الكتاب للنشر» بالقاهرة، وهى تقع في 175 صفحة من القطع المتوسط.
يعرض الكتاب مفهوم الحرية ومعناها، وصلتها بالطبيعة الإنسانية الفطرية، وبعناصر الثقافة السائدة في المجتمع، كما يبحث المؤلف في هذا الكتاب صلة الحرية برغبات الإنسان ودوافعه وعواطفه، وصلتها بالأحوال المحيطة بالإنسان من قيم دينية وأخلاقية وعادات وأعراف وتقاليد.
واللافت للنظر أن «الثقافة» في رأى «جون ديوي» لا يقل تأثيرها على الناس عن تأثير قوى «الطبيعة»، فهو يعطى «للثقافة» وقواها قوة وقدرات «الطبيعة» نفسها، فقوى الثقافة الدينية مثلًا أو الاقتصادية أو العلمية أشبه بقوة الزلزال أو البركان، لا يستطيع الإنسان الفكاك منها أو السيطرة عليها بسهولة ويسر. وتحافظ القوة الثقافية لمجتمع ما على بقائها واستمرار وجودها بقوتها الذاتية، باتباع مناهج وطرق منظمة تحقق بها مجموعة من التحولات في الطبيعة النفسية لأفرادها، وفى ميولهم واتجاهاتهم. (الحرية والثقافة، ص ص 34 – 35).
لا يمكن إنكار أهمية الصفات الوراثية البيولوجية والفروق الفردية. ومع هذا يرى «ديوي» أن الصفات الوراثية البيولوجية حين تسرى داخل نطاق صورة اجتماعية معينة، تتشكل وتتأثر وفقًا للإطار الثقافى السائد. ومن ثمَّ لا تُعَد هذه الصفات ملامح فطرية وراثية تميز إحدى الفئات أو الجماعات أو الشعوب عن بعضها، وإنما تبين الاختلافات في كل جماعة، لذلك- وكما يقول جون ديوى- لا نستطيع القول إن ما يتصف به الإنسان الأبيض من سلوك اجتماعي ناجم عن صفات وراثية بيولوجية، بقدر ما هو ناجم عن تأثير الوسط الاجتماعي والثقافة السائدة وتفاعلها مع الصفات الوراثية البيولوجية. (الحرية والثقافة، ص 35).
وتتصف الحالة «الثقافية» بأنها حالة تعبر عن مجموعة من التفاعلات بين مجموعة من العناصر الرئيسية مثل: الدين، والقانون، والسياسة، والصناعة، والتجارة، والعلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتعبير، والقيم الأخلاقية أو القيم السائدة التى يفضلها الناس، ويتمسكون بها، ويرفعون من شأنها. ويؤكد «ديوي» أن الثقافة تتكون من نسق من الأفكار التى يستخدمها الناس لنقد الظروف والجوانب المعيشية التى يحيون بها أو تقديم تبريرات لها، كما تتكون في الوقت ذاته من فلسفتهم الاجتماعية. (الحرية والثقافة، 37).
حرص «جون ديوي» في هذا الكتاب على دراسة الروابط المتبادلة بين الطبيعة الإنسانية الوراثية والثقافة السائدة، وتأثير كل منهما على الآخر. وقد ذهب إلى أن فكرة «الحرية» ارتبطت في التراثين الإنجليزي والأمريكى بفكرة «الفردية»، وكان الارتباط شديدًا لدرجة أنه بدا كما لو كان شيئًا طبيعيًا. ومع ذلك لاحظ «المؤلف» أن التراث الأوروبى ككل قد نَسَبَ «فكرة الحرية» إلى «فكرة العقلانية». ومن ثمَّ يُنْظَر إلى من يُحَكِّمون العقل بوصفهم أحرارًا، ومن يخضعون لأهوائهم وغرائزهم وحواسهم بوصفهم عبيدًا.
يؤكد «ديوي» أن الديمقراطية تضع أكبر قدر من المسئولية على كاهل أكبر عدد من الناس، فليست الديمقراطية منحة، وإنما مسئولية جماعية. ليس هناك حياة سهلة كما يتصور معظم الناس، وإنما مسئولية جسيمة يتحملها كل فرد. وبقدر ما يُعَد المنهج الديمقراطى بسيطًا يُعَد منهجًا صعبًا للغاية، يحتاج لعمل دءوب خلاَّق لا يكل ولا يمل حتى تأخذنا إلى طريق جديد نستطيع السير فيه معًا (الحرية والثقافة، ص 175).
الديمقراطية نظام أخلاقى في أساسها، هكذا يرى «جون ديوي»، فإذا كان الإنسان مولودًا لديه إدراك فطرى لمعنى «العدالة والمساواة»، فعلى المجتمع إعادة صياغة معناها في قواعد للسلوك. إن الاختلافات الموجودة بين الأجناس لا تعود إلى البنية الفطرية الأصلية للطبيعة البشرية، وإنما إلى التأثيرات التى أفرزتها الظروف الثقافية التى تربى عليها الناس، ونشأوا وترعرعوا في ظلها. إن الثقافة السائدة في المجتمع تمارس دورًا مؤثرًا على اتجاهات الطبيعة البشرية منذ لحظة الميلاد. فالأطفال يولدون دون معرفة باللغة، ومع ذلك يكون في مقدورهم التحدث بلغة المجتمع الذى نشأوا فيه، وتتشكل عقولهم وتتحدد اتجاهاتهم وفقًا لطبيعة هذه اللغة. ولقد أظهرت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن الثقافة التى أدت إلى ظهور اللغة المشتركة لشعب معين تؤدى إلى ظهور صفات مشتركة أخرى جديدة بين أفراد هذا الشعب.
إن سيادة الأفكار القديمة واستمرارها بسبب اعتزاز الناس بها وثقتهم في صحتها، تمثل عقبة كأداء في سبيل تحقيق الديمقراطية الحقة، ومن ثمَّ ينصح مؤلف كتاب «الحرية والثقافة» بضرورة أن تتحول الديمقراطية إلى نظام تربوى واضح يبدأ من الأسرة والمدرسة، ويعمم في المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وبذلك تصبح الديمقراطية نظامًا تربويًا اجتماعيًا نابعًا من الداخل، قبل أن يكون نظامًا سياسيًا مفروض فرضًا من الخارج.
ويختتم «جون ديوي» كتابه بالقول: «إنه لا يمكن حسم الصراع من أجل تحقيق الديمقراطية إلا باتساع تطبيق المناهج الديمقراطية، مثل عمليات التشاور والإقناع والتفاوض، والتواصل، وتبادل الآراء، وخدمة صناعتنا ومناهج التربية وكل عناصر الثقافة، عمومًا لتحقيق الأفكار الديمقراطية» (الحرية والثقافة، 174).
ويستطرد المؤلف قائلًا: «يتمثل دفاعنا الأول عن الديمقراطية في إدراكنا أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا بعملية تدريجية للمناهج التى تتفق مع الغايات التى نريد الوصول إليها في كل جوانب حياتنا اليومية. ويجب أن ننظر إلى محاولات العودة إلى الإجراءات الشمولية بوصفها خيانة للحرية الإنسانية». (الحرية والثقافة، ص 175). يدعونا «ديوي» للكفاح من أجل الحصول على الديمقراطية، والحفاظ عليها في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والتربوية والعلمية والفنية والدينية؛ لأن الديمقراطية هى التى تحرر طاقات الإنسان الطبيعية، وتجعلها في خدمة الحرية والعدالة والمساواة. (الحرية والثقافة، ص ص 173 - 175).