الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«شعبولا».. الذى سخرنا منه فضحك علينا!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فوجئ الكاتب الكبير ذات يوم بالناس فى الشارع يحيونه ويستقبلونه بحفاوة على غير العادة، وكان فى اليوم السابق يمشى فى نفس الأماكن دون أن يعيروه أى اهتمام!!
الكاتب الكبير يسكن فى منطقة شعبية لا يقرأ الناس فيها كتبه ولا تهمهم مقالاته وتحليلاته، وربما حتى لا يعرف معظمهم اسمه!
وعندما قرر الكاتب أن يكتشف سر الحفاوة البالغة، سأل فكهانى قريب من بيته: هل تعرفني؟! أجاب: لا والله يا بيه.. بس أنا شوفت حضرتك امبارح فى التليفزيون مع شعبان عبد الرحيم.. مش أنت برضه اللى كنت معاه؟!
وهنا تلقى الكاتب أكبر صدمة فى حياته!!
كان الكاتب الكبير ضيفًا فى لقاء تليفزيونى عن الأغنية الشعبية.. وقررت القناة أن تقدم لمشاهديها مفاجأة «طريفة» بأن تجمع الكاتب مع «شعبولا» الفنان الشعبى الذى لا يجيد فى الأساس القراءة والكتابة!.. كان الحوار مثيرًا وساخرًا ومفجرًا للضحك، ولكن الذى لم يعرفه الكاتب وقتها أن ظهوره مع شعبان عبد الرحيم قد أكسبه شهرة لم ينالها عبر سنوات طويلة من خلال كتبه وكتاباته «العميقة»، وأن هذا الإنسان البسيط الذى لا يقرأ ولا يكتب قد عرّف الناس به فى أماكن لم تصل إليها كتبه، بل وكان سببًا فى أنه وصل بآرائه وأفكاره لجمهور لم يصل إليه من قبل!
اكتشف وقتها المثقف الكبير -الذى رحل عن عالمنا قبل شعبان بعدة سنوات- جانبًا من ملامح أزمة الثقافة والمثقفين فى مصر، وعندما حكى لى الحكاية، كان حزينًا، وقال: «للأسف كثير من المثقفين فى مصر لم يكتشفوا السر الذى اكتشفه شعبان عبد الرحيم بالفطرة.. سر الوصول إلى قلوب الناس»!
وشخصيًا أعتقد أن شعبان عبدالرحيم لو كان رجل سياسة، كان من شأنه أن يصبح زعيمًا شعبيًا لأنه إمتلك حساسية التأثير فى الناس ببساطة وتلقائية تشبه الصدق، لأن شعبان فى الحقيقة كان هو ”الكذاب الظريف” الذى تحب أن تراه وتتوهم معه أنك تضحك عليه مع انه فى الحقيقة هو الذى يضحك عليك!
لم يكن شعبان ساذجًا أو «عبيط»، كما كان يصفه البعض، بل كان شديد الذكاء وعرف كيف يسوق بضاعته التى اخترعها ولم تكن هذه البضاعة غناء ولا موسيقى، ولا تنتمى لأى شكل فني، كانت عبارة عن ملابس من «قماش الكنبة»، كما كان هو يروج عن نفسه ليكتسب شهرة كاسحة، وكانت مجرد جملة مكررة يؤديها ويختمها بـ «الأيييييه» الشهيرة.
ومع ذلك فإن «شعبولا» وضع نفسه على خريطة «فن شعبى جديد»، وكان نجم الأفراح من إمبابة إلى كل أحياء مصر الشعبية والراقية فى القاهرة وخارجها، بل واستطاع بسبب شعبيته أن يصبح نجم سينما، ليكرر ظاهرة أحمد عدوية فى الثمانينيات والتسعينيات، حتى أن مخرجًا مثقفًا كبيرًا هو داود عبد السيد أسند له دور البطولة فى فيلم «مواطن ومخبر وحرامي».
وأذكر أن أستاذ الطب النفسى الشهير أحمد عكاشة، تحدث عما سماه «ظاهرة شعبولا» فى تحليله لمن هى الشخصيات التى يختارها المصريون لتكون «نجومهم المفضلين»، وتناول الظاهرة أيضًا المفكر الاجتماعى د. جلال أمين فى كتابه «ماذا حدث للمصريين؟»، وبالتحديد عند حديثه عن ذوق المصريين «الذى انحدر من عبد الوهاب وأم كلثوم إلى شعبان عبد الرحيم!».
وأنا فى الحقيقة لا أحب أن اتهم ذوق المصريين بالانحدار؛ لأن هذا الذوق لا ينحدر ولا يرتقى وحده، فلكل زمن نجومه فى الفن والسياسة والمجتمع.. وهم يصبحون «نجومًا» لأن الثقافة السائدة، والمناخ العام هو الذى يصنعهم ويروج لهم.
وأذكر أنه فى فترة الانتعاش «التجاري» لتليفزيون الدولة، عندما بدأ فى أواخر التسعينيات ينافس القنوات الخاصة فى الاستحواذ على القطعة الأكبر من كعكة الإعلانات قرروا فى ذلك الوقت أن يجعلوا من شعبان مذيعًا وأنتجوا له برنامجًا صاحبته حملة دعاية كبيرة، وكانت فكرة البرنامج أن يستضيف شعبان كتّاب وإعلاميين وشخصيات ثقافية بارزة، ليحاورهم فى مجالاتهم وكتاباتهم، وبالفعل حقق المسئولون عن التليفزيون الرسمى فى ذلك الوقت مرادهم!! فقد سقطت الشاشة فى هاوية التفاهة، ومعهم شعبان الغلبان الذى لم يكن يعرف كيف ينطق أسماء ضيوفه! وكانت صدمتى كبيرة عندما كنت ضيفًا على شعبان فى إحدى حلقات البرنامج، رأيت أمامى إنسانًا بسيطًا ألبسوه بدلة وكرافتة، ليحاور ضيوفًا لم يقرأ لهم حرفًا، وأشفقت على الرجل الذى استغلوه وحولوه إلى «مهرج» ليدشنوا به فى ذلك الوقت حملة تسطيح وعى الناس وإلهائهم بنوعية من البرامج صارت «تريند» فيما بعد.
وربما لو كان شعبان عبد الرحيم ظهر فى مناخ آخر بموهبته الفطرية وذكائه الشعبي، لكان أصبح زعيمًا مؤثرًا وبطلًا حقيقيًا، ولكن الظروف هى التى تصنع النجوم والرموز القدوة.. انظر إلى زمن أم كلثوم لتعرف نجومه وكيف لمعوا، وانظر إلى «زمن شعبولا» -رحمه الله- لتعرف من حوّله إلى أيقونة، وكيف أصبح رمزًا و«رائدًا للأغنية الشعبية»، ونجمًا فى المسرح والسينما وضيفًا نحتفى به «ونحفّل عليه» على شاشات التليفزيون!
عندما سأله المذيع فى لقاء قبل سنوات: الناس بتحبك ليه يا شعبان؟.. أجاب: كرم ربنا يا بيه!
حقًا.. إنه بالفعل كرم ربنا.. وأشياء أخرى!