تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يتابع المفكر المصرى الراحل السيد يسين فى كتاب «تحولات الفكر الاستراتيجى المعاصر.. من الاستقلال الوطنى إلى الدولة الاستراتيجية».. والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بقوله: «لا يمكن لنا تحديد أثر المتغيرات العالمية المعاصرة على مستقبل الوطن العربي، بغير قراءة تحليلية ونقدية لهذه المتغيرات، وهذه القراءة تحتاج بالضرورة إلى منهج، ومنهجنا الذى نعتمد عليه هو ما يمكن أن نسميه «المنهج التاريخى النقدى المقارن»، مع تركيز خاص على ما يطلق عليه منظور «التحليل الثقافى»، ولعل السؤال الرئيسى الذى يفرض نفسه:
ما الذى جرى فى العالم؟ وما تفسيره، وما صورة النظام العالمى الجديد الآخذ فى التشكيل الآن ببطء ولكن بثبات؟.. يمكن القول إن أهم تغير حدث هو سقوط الأنظمة الشمولية التى كانت تقوم على احتكار الحزب الواحد للسلطة، وصعود موجة الليبرالية والتعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الإيجابية، التى خرجت - مستفيدة من تيار البريسترويكا الذى أطلقه جورباتشوف - لكى تقضى على الاغتراب السياسى والاقتصادى والثقافى الذى عانته طويلا.
ومعنى ذلك سقوط الأنساق السياسية المغلقة، والتى كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسية مفتوحة، تتعدد فيها الأصوات وتبرز المعارضة وتتنافس الأحزاب والجماعات السياسية.
وقد ترتب على سقوط الأنظمة الشمولية صعود القومية التى كانت مكبوتة تحت غطاء الاتفاق الشكلى والرضا بالوضع القائم. وبروز الصراعات الإثنية. وكأن الصراع الطبقى قد أخلى سبيله للصراع الإثنى والقومي، والسؤال هنا: هل كان يمكن لهذه التغيرات العميقة أن تحدث فجأة، أم أنه كانت لها مقدمات منذ أمد بعيد؟
ولو راجعنا بدقة الأدبيات الخاصة بمشكلات التطور فى كل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والمجتمعات الاشتراكية فى العقود الماضية، لوجدنا مفهومًا مسيطرًا، هو مفهوم «الأزمة» التى تمر بها كل من الرأسمالية والاشتراكية.
غير أن الفرق الجوهرى هو أن التصدى للأزمة فى المجتمعات الرأسمالية بكل جوانبها الاقتصادية والسياسية والثقافية، كان متاحا للمفكرين من كافة الاتجاهات، بما فيها الاتجاه الماركسي، فذلك يعد من قبيل النقد الاجتماعى المشروع، الذى يتيح الفرصة للنخبة السياسية أن ترى البدائل المتاحة أمامها من ناحية، ويرفع مستوى الرأى العام من ناحية أخرى.
فى حين أن التعرض للأزمة فى المجتمعات الاشتراكية الشمولية فى أوروبا الشرقية، كان يعد من قبيل الانشقاق والمعارضة غير المشروعة، والتى يلاحق من يمارسها بكل صور الملاحقة، وهكذا فى الوقت الذى كان فيه جيل كامل من المفكرين الغربيين المختلفين فى مشاربهم السياسية، يمارسون النقد العلنى للنظام الرأسمالى، ويشخصون أزمته الاقتصادية والسياسية والثقافية، كان جيل كامل من المفكرين الماركسيين يضطهدون اضطهادًا شديدًا من قبل السلطات الرسمية.
وكلنا نذكر مصير المفكر «جيلاس» اليوغوسلافى الذى مارس النقد للنظام الاشتراكى مبكرا بكتابه «الطبقة الجديدة»، وسجن بسببه، والمؤرخ السوفيتى الشهير «روى ميدفيديف»، الذى اضطهد بسبب تزعمه للتيار النقدى المعادى للشمولية، والذى أصبح من أبرز نجوم العهد الجديد، فى ظل جورباتشوف.
مفهوم الأزمة إذن كان هو المفهوم المسيطر فى تحليل مشكلات المجتمع المعاصر، وعلى الرغم من الأزمة والتغير فى نظر بعض الباحثين هى عمليات أساسية دائمة تصاحب أى وجود إنساني، غير أنه مع ذلك لا بد فى مجال تعريف الأزمة من التفرقة بين: الأزمات الظرفية، والأزمات الهيكلية، الأولى يمكن مواجهتها بتعديل بعض السياسات القائمة، والثانية أخطر؛ لأنها تتعلق بصميم بنية النظام، الذى قد يحتاج إلى جراحة شاملة، تؤدى إلى تغيير نسق القيم الذى يقوم عليه.
إن ما حدث فى الاتحاد السوفيتى وبولندا والمجر وغيرها من بلاد أوروبا الشرقية، لم يكن أزمة ظرفية، ولكنه رد فعل لأزمة هيكلية بالغة العمق. وتختلف النظم السياسية والمجتمعات فى طريقة مواجهتها للأزمات، هناك نظم مفتوحة، تعتبر الأزمات وسيلة فعالة لإحداث التغيير فى النظام، وهى لأسباب متعددة قادرة على احتوائها والانطلاق من جديد، وهناك أنظمة مغلقة، تعتبر الأزمات معوقات تواجه إما بالقمع السياسي، أو بإجراءات إدارية عقيمة، مما يجعلها فى النهاية فى دائرة مغلقة تؤدى إلى الجمود.
وأيا ما كان الأمر، فإن الحديث عن أزمة النظم الرأسمالية المعاصرة، توارى تحت تأثير سقوط النظم الشمولية، وما أدى إليه من تغيرات عميقة، على الصعيد الثقافى والإيديولوجي. أن موضوع «الآخر» فى العلاقات الدولية، سيكون أحد الموضوعات الكبرى التى سيشتد بصددها الصراع الثقافى والسياسى والاقتصادى فى مرحلة تشكل النظام الدولى الجديد، وتبلور ملامح الحضارة العالمية المقبلة. حقًا لقد كانت صورة الآخر وراء النظام العالمى منذ بداية تشكله وحتى الآن.
وإذا كان المسرح الدولى تسيطر عليه ثلاث قوى: المدنية الغربية الرأسمالية، والنظم الماركسية، والإسلام، وإذا كانت المدنية الغربية الرأسمالية أصبحت علمانية وتخلصت من الإطار الدينى الذى كان يحكم إدراكها للعالم، فلم يبق كمتحد لها سوى الإسلام الذى يقوم على الوحدانية والنظم الماركسية، والآن وبعد سقوط الماركسية، لم يبق فى الساحة سوى المدنية الغربية والإسلام، هل معنى ذلك ضرورة حدوث مواجهة بينهما. وإلى الأسبوع المقبل.