بمناسبة زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى ألمانيا، والعلاقات المتميزة بين القاهرة وبرلين، وأيضًا سعى الدولة المصرية للتقدم الاقتصادي.. يمكننا أن نلقى الضوء على تجربة ألمانيا الاقتصادية، وكيف حققت المعجزة، وتربعت على عرش الاقتصاد الأوروبي، لتصبح الرابعة عالميًا من حيث الناتج المحلى الإجمالي، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، ورغم عدد سكانها الكبير «82 مليون نسمة»، إلا أن اقتصادها المزدهر يجذب الملايين من المهاجرين من مختلف أنحاء العالم.
ألمانيا التى تبلغ مساحتها نحو 357 ألف كيلومتر مربع، 30% منها غابات، حافظت على مستوى عالٍ من المعيشة من خلال نظام ضمان اجتماعي قوي، وهى تستفيد من القوى العاملة المتميزة التى مكنتها من أن تكون واحدة من أكثر الدول في صناعة السيارات والآلات والمواد الكيميائية والمعدات والأدوات المنزلية.
من يرى ألمانيا الآن، لا يصدق أنها البلد التى دمرتها الحرب العالمية الثانية في عام 1945، بعد أن أصيبت بأبشع أنواع الخسائر والدمار، وانتحار «هتلر» وسقوط برلين، فقد خسرت في الحرب ما يزيد على 5 ملايين قتيل من العسكريين فقط، بالإضافة إلى ملايين المدنيين، وتشريد نحو 12 مليونًا، فضلا عن 8 ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء، كانت الدول المنتصرة تهادى بعضها بملايين الأسرى الألمان، فضلًا عن تدمير السكك الحديدية والطرق، وتفكيك المصانع، وأصبح الدولار الأمريك يساوي في بعض الفترات تريليوني مارك ألماني .. بل وانقسمت ألمانيا إلى دويلات منها ألمانيا الشرقية والتى عرفت بالجمهورية الألمانية الديمقراطية التى تتبع النظام الشيوعي، والغربية والتى عرفت بجمهورية ألمانيا الاتحادية والتى كانت تتبع النظام الرأسمالي، واستمر هذا الانقسام حتى عام 1990، عندما سقط النظام الشيوعى في ألمانيا الشرقية واتحدت مع ألمانيا الغربية.. ورغم كل هذه المآسى إلا أنها نهضت من تحت الحطام والأنقاض لتعود لقمة الدول في مختلف المجالات.
بدأت عملية الإعمار بمشروع «مارشال» نسبة إلى الجنرال الأمريكى جورج مارشال، ضمن خطة إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب.. لكن ألمانيا لم تعتمد على أمريكا فقط بل بدأت في استعادة قوتها بشكل متدرج، وعملت على رفع مستوى المعيشة للشعب، وتصدير البضائع المحلية إلى الخارج، والتقليل من مستويات البطالة وزيادة إنتاج الغذاء المحلي، وأشعلت الثورة الصناعية في شتى المجالات وخاصةً في الصناعات الثقيلة.
فبعد أن كانت الدولة منكسرة ومهزومة بعد انتهاء الحرب، بفضل شعبها لم تخضع للهزيمة ولم تنتظر مساعدة الآخرين واتخذت من العمل والبناء سبيلًا للتقدم، وراح الشعب يبنى بلده بنفسه، وشاركت المرأة الرجال المسئولية وكتبن على جدران بيوتهن المنهارة «ألمانيا لا تعرف المستحيل»، ولم تكن ألمانيا تمتلك حكومة وطنية، حتى أواخر 1949.. ولم تكن هناك عاصمة ما جعل سكان الأقاليم يعيدون البناء بأنفسهم.
وشعر «لودفيج إرهارد» الملقب بـ«أبوالمعجزة الاقتصادية الألمانية»، بحتمية خروج الدولة من أزمتها وإعادة بناء اقتصادها على أساس فكرة «السوق الاجتماعي» التى تقوم على الحرية الاقتصادية مع الاهتمام بالتوازن الاجتماعي.. ورغم إجبار ألمانيا على دفع تعويضات بـ 1.1 مليار دولار سنويًا منذ نهاية الحرب وحتى 1971، إلا أن «إرهارد» قام بخطوات طموح، حيث نجح في تغيير عملة «مارك الرايخ» واستبدالها بـ«المارك الألماني»، ونجح في إلغاء ديون الدولة، وتحرير السوق وتحديد الأسعار، ما أجبر التجار على تخفيض أسعار البضائع.
واستفادت ألمانيا من رفض الرئيس الأمريكي، «روزفلت»، لمشروع «مورجنتاو» الذى كان يهدف إلى جعل ألمانيا دولة زراعية فقط، وتطورت الصناعة بقوة وتحولت ألمانيا إلى أهم قوة صناعية في العالم.
وعرفت ألمانيا تحولًا تاريخيًا مذهلًا وهو نظام الاتحاد الجمركى الألمانى الذى ساهم في إدارة شئون الرسوم الجمركية بين مختلف الدويلات الألمانية المتفرقة، وعززت العلاقات التجارية والسياسية الشعور القومى الألماني، وبحلول 1866، كانت معظم هذه الدويلات أعضاء في الاتحاد.. وظهرت أول آلة للغزل والنسيج سنة 1782، وبعد عامين فقط ظهر أول مصنع نسيج بمدينة «راتينجن»، وخلال نفس تلك الفترة، شهد قطاع صناعة الحديد تقدمًا مذهلًا، وفى 1835 افتتح أول خط سكك حديدى ربط بين مدينتى نورمبرج وفورث، ثم امتدت خطوط السكك الحديدية لتغطى 63 ألف كيلومتر، وأنشئ البنك الألمانى سنة 1870، وفى مجال صناعة السيارات كانت ألمانيا سباقة فقد دعمت المهندس كارل بينز الذى تنسب إليه اختراع أول سيارة تجارية سنة 1885، وزميله جوتليب دايملر الذى لعب دورًا أساسيًا في اختراع محرك البنزين، وتحول 60% من الألمان للعيش بالمدن والعمل بالمصانع، وأعلنت الوحدة الألمانية سنة 1871، تمكنت أخيرًا من توحيد الدويلات تحت قيادة واحدة لتنطلق الثورة الصناعية معلنة مولد المارد الألمانى من جديد، ويعد اقتصادها الأقل عرضة للإصابة بالأزمات المالية العالمية.
ويمكن لمصر الباحثة عن التقدم الاستفادة من تجربة ألمانيا التى تتسم العلاقات معها بالعمق والتميز على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية، وذلك من خلال الاهتمام بمجالات الاقتصاد الثلاثة الرئيسية الزراعة والصناعة والتجارة مستغلة كل إمكانياتها المتاحة والتى لا تقل عن إمكانيات ألمانيا، لتحقيق نهضة اقتصادية وسياسية واجتماعية كبرى.