السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الحرافيش».. والبحث عن العدالة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في ملحمته الرائعة، «ملحمة الحرافيش»، ذلك العمل الروائى الذى صدر عام 1977 في 567 صفحة من القطع المتوسط، رصد نجيب محفوظ كثيرًا من الحقائق المتعلقة بواقع حال الحارة المصرية. و«الحرافيش» هى ملحمة بالفعل؛ لأنها لا تقتصر على تناول حياة فرد أو مجموعة من الناس، وإنما تتناول أجيالًا متعاقبة من أبناء الحارة، والحارة هنا تمثل «مصر». أما كلمة «الحرافيش» فهى كلمة «مصرية» معناها المواطنون العاديون أو أبناء الشعب البسطاء، وقد استخدمها نجيب محفوظ في روايته بمعنى محدد في مقابل كلمة «الشعب»، فالحرافيش عنده هم الشعب بأفراده وجماعاته المختلفة، إنهم الجمهور والمحكومون الذين يتصارع الكبار للسيطرة عليهم. 
«ملحمة الحرافيش» هى ملحمة البحث عن «العدالة». وإذا كان الفيلسوف اليونانى القديم «أفلاطون» Plato قد حرص على أن تتحقق «العدالة» في مدينته الفاضلة، فإنه ارتأى من أجل - تحقيق هذا الهدف - أن يكون «الفيلسوف» هو الحاكم للدولة التى عرض أفلاطون مقوماتها في محاورة «الجمهورية». فإن نجيب محفوظ قد سعى إلى تحقيق الغاية نفسها (العدالة) داخل الحارة، غير أنه قد أوكل إلى «الفتوة» لا «الفيلسوف» القيام بهذه المهمة. وإذا كانت بلاد اليونان قد عرفت قديمًا ما يسمى بــ «دولة – المدينة»، نظرًا لأن كل مدينة كانت تشكل دولة مستقلة، فإنه وفقًا لما عبرت عنه «ملحمة الحرافيش» يمكننا أن نطلق على كل حارة مصطلح «دولة – الحارة»، إذ إن كل حارة يتولى إدارة شئونها «فتوة»، و«الفتوة» هو «السلطة» الحاكمة «لدولة – الحارة»، وقد كان «الفتوات» منتشرين في مجتمع القاهرة القديمة، بل وظل «الفتوات» ظاهرة قائمة حتى أوائل القرن الماضي، وكان «الفتوة» هو «الرجل القوي» الذى تدين له «الحارة» بالولاء، ولم يكن يستمد سلطته من قانون أو شرع، بل كان يستمدها من شيء واحد هو «القوة الجسمانية» التى تفرض سلطانه على الناس. 
ينهج «الفتوة» في رواية نجيب محفوظ نهج الحكام العرب، إنه يأمر فيطاع، ولا راد لقضائه. يملك «الفتوة» مصائر أهل الحارة في قبضة يده، يفرض الإتاوات على الجميع الأغنياء (الأعيان) والفقراء (الحرافيش). والويل كل الويل لمن يرفض أوامره، يصدر أمرًا بأن يتزوج فلان من فلانة، أو يأمر الزوج بتطليق زوجته. أوامر تصدر لتطاع دون مناقشة أو اعتراض، ومن يعترض يُعَرِّض حياته وحياة أسرته للهلاك أو الطرد خارج الحارة. 
تبدأ الرواية بمشهد الشيخ عفرة زيدان، حين كان في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، فسمع صوت بكاء طفل رضيع، اتجه نحو مصدر الصوت، فعثر على لفافة، تحت السور العتيق، تحوى طفلًا. تفكر قليلًا، ولكنه قرر حمله والرجوع به إلى مسكنه؛ ليشاور زوجته في الأمر. تبين لهما أنه «ذكر»، فكر الشيخ أن يذهب بالطفل إلى القسم لتسليمه، لكن زوجته التى كانت محرومة من الإنجاب رفضت ذلك. وقرَّ قرارهما في نهاية الأمرعلى استبقاء الطفل وتبنيه، وأُطلِّق عليه اسم «عاشور عبدالله». 
تربى «عاشور» في كنف الشيخ عفرة وزوجته، وكَبُرَ وعمل سائق كارو، وتزوج وأنجب ثلاثة أبناء. لم يستخدم «عاشور» جسمه القوى في البلطجة، وإنما حاول توظيف قوته البدنية من أجل خدمة الحق والعدل. مال قلب «عاشور» لامرأة ثانية هى «فلة»، رغم علمه بسوء سلوكها، استقر حبها في قلبه وملأ كل جوانحه، لم يشأ أن يأتيها في الحرام، رغم أن هذا كان متاحًا له، منعه عن الحرام شهامته وحسن خلقه اللذان عُرِفَ بهما، فاختارها زوجة ثانية له. والحق أن «فلة» أخلصت لعاشور، وتمسكت بدينها وأخلاقها، لم تنظر إلى سواه، وأنجبت له «شمس الدين». 
عاش «عاشور» في الحارة حتى اجتاحها الوباء، ورأى في المنام ملاكًا يأمره أن يهجر الحارة اتقاءً للوباء، ودعا الناس إلى الهجرة لكنهم سخروا منه، حتى أولاده لم يستمعوا إلى نصيحته ولم يرافقه إلا فلة وشمس الدين، فمضى محزونًا بزوجه وولده ولما رجع أنقذ الحارة من العذاب والذل كما أنقذه الله من الموت. (نجيب محفوظ، الحرافيش، مكتبة مصر، القاهرة، 1977، ص 489).
لو لم يغادر عاشور الحارة لكان الوباء قد التهمه مع الآخرين. بسبب هجره للحارة نجا من الموت، لذلك أُطْلق عليه لقب «عاشور الناجي». وفى ظل «فتونته» نعمت الحارة بالرخاء والعدل؛ لأن عاشور لم يستأثر لنفسه بشىء دون بقية أبناء الحارة. أقام «فتونته» على أصول لم تُعْرَف من قبل، رجع إلى عمله الأول ولزم مسكنه، كما ألزم كل تابع من أتباعه بعمل يرتزق منه. وبذلك محق البلطجة محقًا ولم يفرض إتاوة إلا على الأعيان والقادرين ينفقها على الفقراء والعاجزين، وانتصر على فتوات الحارات المجاورة، فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحف بها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة. (الحرافيش، ص 85).
انتهت أيام عاشور الناجى فجأة، إذ خرج ذات ليلة من بيته ولم يعد. وتولى «الفتونة» بعده العديد من أحفاده لكنهم أساءوا إلى الماضى الذى صنعه جدهم الأول «عاشور الناجي». انعزلوا عن الحرافيش، وصاروا من التجار والأعيان (الأثرياء). لم تعد الحارة هى المدينة الفاضلة التى استطاع عاشور الناجى إقامتها قبل أن يغيب. أضحت تعانى غياب العدالة وسيادة الظلم. واعتقد الحرافيش أن عاشور الناجى لم يمت، وإنما هو غائب ولا بد أن يعود يومًا ما. 
اختفى «عاشور الناجي» دون أن يعرف أحد أين ذهب. وبدأت الأمور تضطرب في «الحارة» يومًا بعد يوم وجيلًا بعد جيل، واختل ميزان العدل تمامًا، وظهر «فتوات» آخرون يحرصون على سعادتهم هم ولا يفكرون في مصير «الحرافيش»، وبذلك انهارت المدينة الفاضلة التى أقامها «عاشور الناجي» بقوته وعدالته. وتستمر أحداث الرواية فصلًا بعد فصل، إلى أن نصل للحكاية العاشرة وهى الحكاية الأخيرة في «ملحمة الحرافيش»، وهنا يظهر بطل جديد اسمه «عاشور» أيضًا وهو حفيد «عاشور الأول». (رجاء النقاش، في حب نجيب محفوظ، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 157).
أدرك عاشور «الحفيد» كيف أخطأ «جده» حين أقام العدالة في الحارة استنادًا إلى قوته كفرد، فلما اختفى «الفرد» ساءت الحياة في الحارة، وتلاشت العدالة، وتفشى الظلم. أما المدينة الفاضلة الجديدة التى يسعى عاشور «الحفيد» لإقامتها، فينبغى أن تقوم على أكتاف الحرافيش جميعًا، وبذلك يمكن لهذه المدينة أن تبقى وتعيش لأن «الفتوة» يزول ويتغير، أما «الحرافيش» فهم وحدهم الباقون.