الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

تراثيات.. أبو حيان التوحيدي يشرح معنى السكينة في ليالي الإمتاع والمؤانسة

الفيلسوف والأديب
الفيلسوف والأديب أبو حيان التوحيدي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذكر الفيلسوف والأديب أبو حيان التوحيدي، في كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، أن الوزير أبا عبدالله العارض وزير ابن عضد الدولة البويهي، طلب في الليلة الرابعة عشرة التي سامره ونادمه فيها، أن يعرف معنى السكينة، حينما سمع "ما تقلد امرؤ قلادة أفضل من سكينة"، فقال: ذكرتني شيئًا كنتُ مهتمٍّا به قديمًا، والآن قرعتَ إليَّ بابه؛ ما السكينة؟ فإني أرى أصحابنا يرددون هذا الاسم ولا يبسطون القول فيه.
فقال التوحيدي في جوابه على السؤال: سألت أبا سليمان عن السكينة ما هي؟ فقال: السكائن كثيرة: طبيعية، ونفسية، وعقلية، وإلهية، ومجموعة من هذه بأنصباء مختلفة ومقادير متفاوتة ومتباعدة.
والسكينة الطبيعية اعتدال المزاج بتصالح الأسُْطُقُسَّات، تحدث به لصاحبه شارةٌ تُسمَّى الوقار، ويكون للعقل فيها أثر بادٍ، وهو زينة الرُّواء المقبول. والسكينة النفسية مماثَلة الرَّوِيَّة للبديهة، ومواطأة البديهة للروية، وقصد الغاية بالهيئة المتناسبة، يحدث بها لصاحبها سَمْتٌ ظاهر ورُنُوٌّ دائم وإطراقٌ لا وجوم معه، وغَيبة لا غفلة معها، وشهامة لا طيش فيها. والسكينة العقلية حُسن قبول الاستفاضة بنسبة تامة إلى الإفاضة. ومعنى هذا أن القابل مستغرَق بقوة المقبول منه، وبهذه الحال يحدث لصاحبها هدى يشتمل على وزن الفكر في طلب الحق مع سكون الأطراف في أنواع الحركات. والسكينة الإلهية لا عبارة عنها على التحديد، لأنها كالحُلْم في الانتباه وكالإشارة في الحلم، وليست حلمًا ولا انتباهًا في الحقيقة، لأن هذين نعتان محمودان في عالم السيلان والتبدُّل، جاريان على التخيل والتجوز بزوائد لا ثبات لها ونواقصلا مبالاة بها، رُوحانية في رُوحانية كما يقال«هذا صفوُ الصَّفْو» و« هذا صفوُ هذا» ومن لحظ هذه الكيفية وبُوشِر صدرُه بهذه الحقيقة، استغنى عن رسوم محدودة بألفٍ ولام، وحقائق مكنونة في عرضالكلام. وإذا جهلنا أشياء هي لأهل الأنُْس بلُغات قد فُطروا عليها، وعبارات أَنِسوا بها؛ كيف نجد السَّبيل إلى الإفصاح والإشارة إليها؟.
فهذا باب واضح، والطمع في نيله نازح. وإذا كان المَنال صعبًا 5 في الموضع الذي عمدنا إليه، فكيف يكون حالنا في البحث عما في حيِّز الألوهية وبحبوحة الربوبية، ولا كون هناك ولا ما نِسبتُه للكون؟ وأقوى ما في أيدينا أن نتعلَّل بالوجود فالموجودِ والوجدان والجود، وهذه كلُّها غليظة بالإضافة إلينا وفوق الدقيقة بالإضافة إلى أعيانها. فعلى هذا الصمتُ أوجَدُ للمراد من النطق، والتسليمُ أظفرُ بالبِغية من البحث. قال البخاريُّ "أبو العباس البخاري متكلم وفيلسوف": فشيء كهذا بدقيقه وإشكاله وغموضه وخفائه كيف يَظهر على جِبِلَّة بشرية وبنية طينية وكَمِّيَّة مادِّية وكيفية عنصرية؟.
فقال: يا هذا، إنما يشع من هذه السكينة على قدر ما استُودع صاحبُها من نور العقل، وقبس النفس، وهبة الطبيعة، وصحة المزاج، وحسن الاختيار، واعتدال الأفعال، وصلاح العادة، وصحة الفكرة، وصواب القول، وطهارة السر ومساواته للعلانية، وغلبتِه بالتوحد، وانتظام كلِّ صادر منه ووارد عليه.
وها هنا تمَّحي الجِبِلَّة البشرية، وتتبدد الجبلة الطينية، وتَبيد الكَمية المادِّيَّة، وتعفو الكيفية العنصرية، ويكون السلطان والولاية والتصريف والسياسة كلُّها لتلك السكينة التي قدَّمْنا وصفنا لها، واشتدَّ وجدُنا بها، وطال شوقنا إليها، ودام تحديقنا نحوها، واتصل رُنُوُّنا إليها، وتناهت نَجْوانا بذِكرها. وهذا هو الخَلع الذي سمعتَ بذكره، واللِّباس الذي سألتَ عنه، أعني خَلع ما أنت منه إنسان، ولِبس ما أنت به مَلَك.